تفسير سورة التوبة تفسير البغوي

تفسير سورة التوبة بواسطة تفسير البغوي هذا ما سنستعرض بإذن الله سويًا ،هي سورة مدنية وجاء ترتيبها 9 في المصحف الكريم وعدد آياتها 129.

تفسير آيات سورة التوبة

من
إلى
المفسرون

تفسير بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)

قال مقاتل : هذه السورة مدنية إلا آيتين من آخر السورة .
قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : سورة التوبة؟ قال : هي الفاضحة ما زالت تنزل : " ومنهم . . " ، " ومنهم . . " حتى ظنوا أنها لم تبق أحدا منهم إلا ذكر فيها ، قال : قلت سورة الأنفال؟ قال : تلك سورة بدر ، قال : قلت : سورة الحشر؟ قال : قل سورة بني النضير .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنا أبو إسحاق أحمد بن محمد إبراهيم الثعلبي ، أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسين الجرجاني ، أنبأنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ ، أنبأنا أحمد بن علي بن المثنى ، حدثنا عبيد الله القواريري ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا عوف بن أبي جميلة الأعرابي ، حدثني يزيد الفارسي ، حدثني ابن عباس رضي الله عنهما قال : قلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني ، وإلى براءة ، وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما " بسم الله الرحمن الرحيم " ووضعتموها في السبع الطوال؟
فقال عثمان : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان ، وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ، فإذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده ، فيقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال مما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر ما نزل ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها ، فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتها في السبع الطوال .
قوله تعالى : ( براءة من الله ورسوله ) أي هذه براءة من الله . وهي مصدر كالنشاءة والدناءة .
قال المفسرون : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، كان المنافقون يرجفون الأراجيف وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر الله عز وجل بنقض عهودهم ، وذلك قوله عز وجل : " وإما تخافن من قوم خيانة " الآية ( الأنفال - 58 ) .
قال الزجاج : براءة أي : قد برئ الله تعالى ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء لهم بها إذا نكثوا .
( إلى الذين عاهدتم من المشركين ) الخطاب مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عاهدهم وعاقدهم ، لأنه عاهدهم وأصحابه راضون بذلك ، فكأنهم عاقدوا وعاهدوا .

تفسير فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)

( فسيحوا في الأرض ) رجع من الخبر إلى الخطاب ، أي : قل لهم : سيحوا ، أي : سيروا في الأرض ، مقبلين ومدبرين ، آمنين غير خائفين أحدا من المسلمين . ( أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله ) أي : غير فائتين ولا سابقين ، ( وأن الله مخزي الكافرين ) أي : مذلهم بالقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة .
واختلف العلماء في هذا التأجيل وفي هؤلاء الذين برئ الله ورسوله إليهم من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فقال جماعة : هذا تأجيل من الله تعالى للمشركين ، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر : رفعه إلى أربعة أشهر ، ومن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر : حطه إلى أربعة أشهر ، ومن كانت مدة عهده بغير أجل محدود : حده بأربعة أشهر ، ثم هو حرب بعد ذلك لله ورسوله ، فيقتل حيث أدرك ويؤسر إلا أن يتوب .
وابتداء هذا الأجل : يوم الحج الأكبر ، وانقضاؤه إلى عشر من شهر ربيع الآخر .
فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم ، وذلك خمسون يوما . وقال الزهري : الأشهر الأربعة شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لأن هذه الآية نزلت في شوال ، والأول هو الأصوب ، وعليه الأكثرون .
وقال الكلبي : إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان له عهد دون أربعة أشهر ، فأتم له أربعة أشهر ، فأما من كان له عهد أكثر من أربعة أشهر فهذا أمر بإتمام عهده بقوله تعالى : " فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم " . قال الحسن : أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بقتال من قاتله من المشركين ، فقال : " قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم " فكان لا يقاتل إلا من قاتله ، ثم أمره بقتال المشركين والبراءة منهم ، وأجلهم أربعة أشهر ، فلم يكن لأحد منهم أجل أكثر من أربعة أشهر ، لا من كان له عهد قبل البراءة ولا من لم يكن له عهد ، فكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر ، وأحل دماء جميعهم من أهل العهد وغيرهم بعد انقضاء الأجل .
وقيل : نزلت هذه قبل تبوك .
قال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما : نزلت في أهل مكة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشا عام الحديبية على : أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل بنو بكر في عهد قريش ، ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالت منها ، وأعانتهم قريش بالسلاح ، فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهدهم ، خرج عمرو بن سالم الخزاعي ، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :
لاهم إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا فانصر هداك الله نصرا أبدا
وادع عباد الله يأتوا مددا أبيض مثل الشمس يسمو صعدا
إن سيم خسفا وجهه تربدا هم بيتونا بالهجير هجدا
وقتلونا ركعا وسجدا كنت لنا أبا وكنا ولدا
ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا فيهم رسول الله قد تجردا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا وزعموا أن لست تنجي أحدا
وهم أذل وأقل عددا
4 10 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا نصرت إن لم أنصركم " ، وتجهز إلى مكة سنة ثمان من الهجرة .
فلما كان سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج ، ثم قال : إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة ، فبعث أبا بكر تلك السنة أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج ، وبعث معه بأربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم ، ثم بعث بعده عليا ، كرم الله وجهه ، على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة ، وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفة : أن قد برئت ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم من كل مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان .
فرجع أبو بكر فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء؟ قال : لا ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي ، أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك صاحبي على الحوض؟ قال : بلى يا رسول الله .
فسار أبو بكر رضي الله عنه أميرا على الحج ، وعلي رضي الله عنه ليؤذن ببراءة ، فلما كان قبل يوم التروية بيوم خطب أبو بكر الناس وحدثهم عن مناسكهم ، وأقام للناس الحج ، والعرب في تلك السنة على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية من الحج ، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، فأذن في الناس بالذي أمر به ، وقرأ عليهم سورة براءة .
وقال زيد بن يثيع سألنا عليا بأي شيء بعثت في تلك الحجة ؟ قال : بعثت بأربع : لا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته ، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا .
ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع .
فإن قال قائل : كيف بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه ثم عزله وبعث عليا رضي الله عنه؟
قلنا : ذكر العلماء أن رسول الله لم يعزل أبا بكر رضي الله عنه ، وكان هو الأمير ، وإنما بعث عليا رضي الله عنه لينادي بهذه الآيات ، وكان السبب فيه : أن العرب تعارفوا فيما بينهم في عقد العهود ونقضها ، أن لا يتولى ذلك إلا سيدهم ، أو رجل من رهطه ، فبعث عليا رضي الله عنه إزاحة للعلة ، لئلا يقولوا : هذا خلاف ما نعرفه فينافي نقض العهد .
والدليل على أن أبا بكر رضي الله عنه كان هو الأمير : ما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إسحاق ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن أخي ابن شهاب ، عن عمه ، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر نؤذن بمنى : ألا لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . قال حميد بن عبد الرحمن : ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فأمره أن يؤذن ببراءة . قال أبو هريرة فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر : ألا لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان .

تفسير وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)

قوله عز وجل : ( وأذان ) عطف على قوله : " براءة " أي : إعلام . ومنه الأذان بالصلاة ، يقال : آذنته فأذن ، أي : أعلمته . وأصله من الأذن ، أي : أوقعته في أذنه .
( من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ) واختلفوا في يوم الحج الأكبر : روى عكرمة عن ابن عباس : أنه يوم عرفة ، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن الزبير . وهو قول عطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن المسيب .
وقال جماعة : هو يوم النحر ، روي عن يحيى بن الجزار قال : خرج علي رضي الله عنه يوم النحر على بغلة بيضاء ، يريد الجبانة ، فجاءه رجل وأخذ بلجام دابته وسأله عن يوم الحج الأكبر؟ فقال : يومك هذا ، خل سبيلها . ويروى ذلك عن عبد الله بن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة . وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير والسدي .
وروى ابن جريج عن مجاهد : يوم الحج الأكبر حين الحج أيام منى كلها ، وكان سفيان الثوري يقول : يوم الحج الأكبر أيام منى كلها ، مثل : يوم صفين ويوم الجمل ويوم بعاث ، يراد به : الحين والزمان ، لأن هذه الحروب دامت أياما كثيرة .
وقال عبد الله بن الحارث بن نوفل : يوم الحج الأكبر اليوم الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو قول ابن سيرين ، لأنه اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود والنصارى والمشركين ، ولم يجتمع قبله ولا بعده .
واختلفوا في الحج الأكبر : فقال مجاهد : الحج الأكبر : القران ، والحج الأصغر : إفراد الحج .
وقال الزهري والشعبي وعطاء : الحج الأكبر : الحج ، والحج الأصغر : العمرة؛ قيل لها الأصغر لنقصان أعمالها .
قوله تعالى : ( أن الله بريء من المشركين ورسوله ) أي : ورسوله أيضا بريء من المشركين . وقرأ يعقوب " ورسوله " بنصب اللام أي : أن الله ورسوله بريء ، ( فإن تبتم ) رجعتم من كفركم وأخلصتم التوحيد ، ( فهو خير لكم وإن توليتم ) أعرضتم عن الإيمان ، ( فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ) .

تفسير إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)

( إلا الذين عاهدتم من المشركين ) هذا استثناء من قوله : " براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين " إلا من عهد الذين عاهدتم من المشركين ، وهم بنو ضمرة ، حي من كنانة ، أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بإتمام عهدهم إلى مدتهم ، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر ، وكان السبب فيه : أنهم لم ينقضوا العهد ، وهذا معنى قوله تعالى : ( ثم لم ينقصوكم شيئا ) من عهدهم الذي عاهدتموهم عليه ، ( ولم يظاهروا ) لم يعاونوا ، ( عليكم أحدا ) من عدوكم . وقرأ عطاء بن يسار : " لم ينقضوكم " بالضاد المعجمة من نقض العهد ، ( فأتموا إليهم عهدهم ) فأوفوا لهم بعهدهم ، ( إلى مدتهم ) إلى أجلهم الذي عاهدتموهم عليه ، ( إن الله يحب المتقين ) .

تفسير فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

قوله تعالى ( فإذا انسلخ ) انقضى ومضى ( الأشهر الحرم ) قيل : هي الأشهر الأربعة : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم .
وقال مجاهد وابن إسحاق : هي شهور العهد ، فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر ، ومن لا عهد له : فأجله إلى انقضاء المحرم خمسون يوما ، وقيل لها " حرم " لأن الله تعالى حرم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم .
فإن قيل : هذا القدر بعض الأشهر الحرم والله تعالى يقول : " فإذا انسلخ الأشهر الحرم " ؟
قيل : لما كان هذا القدر متصلا بما مضى أطلق عليه اسم الجمع ، ومعناه : مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم .
قوله تعالى : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) في الحل والحرم ، ( وخذوهم ) وأسروهم ، ( واحصروهم ) أي : احبسوهم .
قال ابن عباس رضي الله عنه : يريد إن تحصنوا فاحصروهم ، أي : امنعوهم من الخروج .
وقيل : امنعوهم من دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام .
( واقعدوا لهم كل مرصد ) أي : على كل طريق ، والمرصد : الموضع الذي يرقب فيه العدو ، من رصدت الشيء أرصده : إذا ترقبته ، يريد : كونوا لهم رصدا لتأخذوهم من أي وجه توجهوا .
وقيل : اقعدوا لهم بطريق مكة ، حتى لا يدخلوها . ( فإن تابوا ) من الشرك ، ( وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) يقول : دعوهم فليتصرفوا في أمصارهم ويدخلوا مكة ، ( إن الله غفور ) لمن تاب ، ( رحيم ) به .
وقال الحسين بن الفضل : هذه الآية نسخت كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء .

تفسير وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)

قوله تعالى : ( وإن أحد من المشركين استجارك ) أي : وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم ، أي : استأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم ليسمع كلام الله . ( فأجره ) فأعذه وآمنه ، ( حتى يسمع كلام الله ) فيما له وعليه من الثواب والعقاب ، ( ثم أبلغه مأمنه ) أي : إن لم يسلم أبلغه مأمنه ، أي : الموضع الذي يأمن فيه وهو دار قومه ، فإن قاتلك بعد ذلك فقدرت عليه فاقتله ، ( ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ) أي : لا يعلمون دين الله تعالى وتوحيده فهم محتاجون إلى سماع كلام الله . قال الحسن : وهذه الآية محكمة إلى يوم القيامة .

تفسير كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)

قوله تعالى : ( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ) هذا على وجه التعجب ، ومعناه جحد ، أي : لا يكون لهم عهد عند الله ، ولا عند رسوله ، وهم يغدرون وينقضون العهد ، ثم استثنى فقال جل وعلا ( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ) قال ابن عباس : هم قريش . وقال قتادة : هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية .
قال الله تعالى : ( فما استقاموا لكم ) أي : على العهد ، ( فاستقيموا لهم ) فلم يستقيموا ، ونقضوا العهد ، وأعانوا بني بكر على خزاعة ، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم : إما أن يسلموا ، وإما أن يلحقوا بأي بلاد شاءوا ، فأسلموا قبل الأربعة الأشهر . قال السدي والكلبي وابن إسحاق : هم من قبائل بكر : بنو خزيمة وبنو مدلج وبنو ضمرة وبنو الديل ، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ، ولم يكن نقض العهد إلا قريش وبنو الديل من بني بكر ، فأمر بإتمام العهد لمن لم ينقض وهم بنو ضمرة .
وهذا القول أقرب إلى الصواب ؛ لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكة ، فكيف يقول لشيء قد مضى : " فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم " ؟ وإنما هم الذين قال عز وجل : " إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا " كما نقصتكم قريش ، ولم يظاهروا عليكم أحدا كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . ( إن الله يحب المتقين ) .