هذا إخبار عن حمده والثناء عليه بصفات الكمال، ونعوت العظمة والجلال عموما، وعلى هذه المذكورات خصوصا. فحمد نفسه على خلقه السماوات والأرض، الدالة على كمال قدرته، وسعة علمه ورحمته، وعموم حكمته، وانفراده بالخلق والتدبير، وعلى جعله الظلمات والنور، وذلك شامل للحسي من ذلك، كالليل والنهار، والشمس والقمر. والمعنوي، كظلمات الجهل، والشك، والشرك، والمعصية، والغفلة، ونور العلم والإيمان، واليقين، والطاعة، وهذا كله، يدل دلالة قاطعة أنه تعالى، هو المستحق للعبادة، وإخلاص الدين له، ومع هذا الدليل ووضوح البرهان { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أي يعدلون به سواه، يسوونهم به في العبادة والتعظيم، مع أنهم لم يساووا الله في شيء من الكمال، وهم فقراء عاجزون ناقصون من كل وجه.
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ } وذلك بخلق مادتكم وأبيكم آدم عليه السلام. { ثُمَّ قَضَى أَجَلًا } أي: ضرب لمدة إقامتكم في هذه الدار أجلا، تتمتعون به وتمتحنون، وتبتلون بما يرسل إليكم به رسله. { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } ويعمركم ما يتذكر فيه من تذكر. { وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ } وهي: الدار الآخرة، التي ينتقل العباد إليها من هذه الدار، فيجازيهم بأعمالهم من خير وشر. { ثُمَّ } مع هذا البيان التام وقطع الحجة { أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ } أي: تشكون في وعد الله ووعيده، ووقوع الجزاء يوم القيامة. وذكر الله الظلمات بالجمع، لكثرة موادها وتنوع طرقها. ووحد النور لكون الصراط الموصلة إلى الله واحدة لا تعدد فيها،، وهي: الصراط المتضمنة للعلم بالحق والعمل به، كما قال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }
أي: وهو المألوه المعبود في السماوات وفي الأرض، فأهل السماء والأرض، متعبدون لربهم، خاضعون لعظمته، مستكينون لعزه وجلاله، الملائكة المقربون، والأنبياء والمرسلون، والصديقون، والشهداء والصالحون. وهو تعالى يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون، فاحذروا معاصيه وارغبوا في الأعمال التي تقربكم منه، وتدنيكم من رحمته، واحذروا من كل عمل يبعدكم منه ومن رحمته.
هذا إخبار منه تعالى عن إعراض المشركين، وشدة تكذيبهم وعداوتهم، وأنهم لا تنفع فيهم الآيات حتى تحل بهم المثلات، فقال: { وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِم } الدالة على الحق دلالة قاطعة، الداعية لهم إلى اتباعه وقبوله { إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِين } لا يلقون لها بالا، ولا يصغون لها سمعا، قد انصرفت قلوبهم إلى غيرها، وولوها أدبارَهم.
{ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ } والحق حقه أن يتبع، ويشكر الله على تيسيره لهم، وإتيانهم به، فقابلوه بضد ما يجب مقابلته به فاستحقوا العقاب الشديد. { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي: فسوف يرون ما استهزأوا به، أنه الحق والصدق، ويبين الله للمكذبين كذبهم وافتراءهم، وكانوا يستهزئون بالبعث والجنة والنار، فإذا كان يوم القيامة قيل للمكذبين: { هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } وقال تعالى: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ }
أمرهم أن يعتبروا بالأمم السالفة فقال: { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ } أي: كم تتابع إهلاكنا للأمم المكذبين، وأمهلناهم قبل ذلك الإهلاك، بأن { مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ } لهؤلاء من الأموال والبنين والرفاهية. { وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ } فينبت لهم بذلك ما شاء الله، من زروع وثمار، يتمتعون بها، ويتناولون منها ما يشتهون، فلم يشكروا الله على نعمه، بل أقبلوا على الشهوات، وألهتهم أنواع اللذات، فجاءتهم رسلهم بالبينات، فلم يصدقوها، بل ردوها وكذبوها فأهلكهم الله بذنوبهم وأنشأ { مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } فهذه سنة الله ودأبه، في الأمم السابقين واللاحقين، فاعتبروا بمن قص الله عليكم نبأهم.
هذا إخبار من الله لرسوله عن شدة عناد الكافرين، وأنه ليس تكذيبهم لقصور فيما جئتهم به، ولا لجهل منهم بذلك، وإنما ذلك ظلم وبغي، لا حيلة لكم فيه، فقال: { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } وتيقنوه { لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } ظلما وعلوا { إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } فأي بينة أعظم من هذه البينة، وهذا قولهم الشنيع فيها، حيث كابروا المحسوس الذي لا يمكن مَن له أدنى مسكة مِن عقل دفعه؟"