تفسير سورة طه تفسير الطبري

تفسير سورة طه بواسطة تفسير الطبري هذا ما سنستعرض بإذن الله سويًا ،هي سورة مكية وجاء ترتيبها 20 في المصحف الكريم وعدد آياتها 135.

تفسير آيات سورة طه

من
إلى
المفسرون

تفسير طه (1)

القول في تأويل قوله تعالى : طه (1)
قال أبو جعفر محمد بن جرير: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله (طَهَ) فقال بعضهم: معناه يا رجل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تميلة، عن الحسن بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس: طه: بالنبطية: يا رجل.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس.
قوله ( طه مَا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) فإن قومه قالوا: لقد شقي هذا الرجل بربه، فأنـزل الله تعالى ذكره (طَهَ) يعني: يا رجل ( مَا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ).
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن مسلم، أو يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير أنه قال: طه: يا رجل بالسريانية.
قال ابن جريج: وأخبرني زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس، بذلك أيضا. قال ابن جُرَيج، وقال مجاهد، ذلك أيضا.
حدثنا عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا عمارة عن عكرمة، في قوله (طَهَ) قال: يا رجل، كلمه بالنبطية.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد الله، عن عكرمة، في قوله (طَهَ) قال: بالنبطية: يا إنسان.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، عن قرة بن خالد، عن الضحاك، في قوله (طَهَ) قال: يا رجل بالنبطية.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حُصين، عن عكرمة في قوله (طَهَ) قال: يا رجل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (طَهَ) قال: يا رجل، وهي بالسريانية.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن في قوله (طَهَ) قالا يا رجل.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد، يعني ابن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (طَهَ) قال: يا رجل.
وقال آخرون: هو اسم من أسماء الله، وقسم أقسم الله به.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله (طَهَ) قال: فإنه قسم أقسم الله به، وهو اسم من أسماء الله.
وقال آخرون: هو حروف هجاء.
وقال آخرون: هو حروف مقطعة يدلّ كلّ حرف منها على معنى، واختلفوا في ذلك اختلافهم في الم .
وقد ذكرنا ذلك في مواضعه، وبيَّنا ذلك بشواهده.
والذي هو أولى بالصواب عندي من الأقوال فيه قول من قال: معناه: يا رجل، لأنها كلمة معروفة في عكَّ فيما بلغني، وأن معناها فيهم: يا رجل، أنشدت لمتمم بن نويرة:
هَتَفْـتُ بِطَـهَ فِـي القِتـالِ فَلَـمْ يُجِبْ
فَخِــفْتُ عَلَيْــهِ أنْ يَكـونَ مُـوَائِلا (3)
وقال آخر:
إنَّ السَّــفاهَةَ طَــهَ مِـنْ خَـلائِقكُمْ
لا بـارَكَ اللـهُ فِـي القَـوْمِ المَلاعِينِ (4)
فإذا كان ذلك معروفا فيهم على ما ذكرنا، فالواجب أن يوجه تأويله إلى المعروف فيهم من معناه، ولا سيما إذا وافق ذلك تأويل أهل العلم من الصحابة والتابعين.
فتأويل الكلام إذن: يا رجل ما أنـزلنا عليك القرآن لتشقى، ما أنـزلناه عليك فنكلفك ما لا طاقة لك به من العمل، وذُكِر أنه قيل له ذلك بسبب ما كان يلقى من النَّصب والعناء والسهر في قيام الليل.
* ذكر من قال ذلك:
---------------------------------
الهوامش :
(3) البيت لمتمم بن نويرة كما قال المؤلف . وفيه ( اللسان : طهطه ) : الليث في تفسير ( طه ) مجزومة أنها بالحبشية : يا رجل ، قال : ومن قرأ ( طه ) فحرفان . وبلغنا أن موسى لما سمع كلام الرب عز وجل استفزه الخوف ، حتى قام على أصابع قدميه خوفا ، فقال الله عز وجل : ( طه ) أي اطمئن . الفراء : ( طه ) حرف هجاء . قال : وجاء في التفسير ( طه ) يا رجل : يا إنسان . قال : وحدث قيس عن عاصم عن زر ، قال : قرأ رجل على ابن مسعود ( طه فقال له عبد الله : ( طه ) بكسرتين ، فقال الرجل : أليس إنما أمر أن يطأ قدمه ، فقال له عبد الله : هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال الفراء : وكان بعض القراء يقطعها ( ط . هـ ) وروى الأزهري عن أبي حاتم قال : ( طه ) : افتتاح سورة ، ثم استقبل الكلام فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى . وقال قتادة : ( طه ) بالسريانية : يا رجل . وقال سعيد بن جبير وعكرمة : هي بالنبطية : يا رجل ، وروي ذلك عن ابن عباس . أه . ( اللسان ) .
(4) هذا الشاهد كالذي قبله ، على أن معنى ( طه ) في كلام العرب : يا رجل ولم أقف على قائل البيت .

تفسير مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ (2)

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( مَا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) قال: هي مثل قوله فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ فكانوا يعلقون الحبال في صدورهم في الصلاة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( مَا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) قال: في الصلاة كقوله: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ فكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( مَا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) لا والله ما جعله الله شقيا، ولكن جعله رحمة ونورا، ودليلا إلى الجنة.

تفسير إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَىٰ (3)

وقوله ( إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) يقول تعالى ذكره: ما أنـزلنا عليك هذا القرآن إلا تذكرة لمن يخشى عقاب الله، فيتقيه بأداء فرائض ربه واجتناب محارمه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) وإن الله أنـزل كتبه، وبعث رسله رحمة رحم الله بها العباد، ليتذكر ذاكر، وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله، وهو ذكر له أنـزل الله فيه حلاله وحرامه، فقال تَنْـزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) قال: الذي أنـزلناه عليك تذكرة لمن يخشى.
فمعنى الكلام إذن: يا رجل ما أنـزلنا عليك هذا القرآن لتشقى به، ما أنـزلناه إلا تذكرة لمن يخشى.
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب تذكرة، فكان بعض نحويي البصرة يقول: قال: إلا تذكرة بدلا من قوله لتشقى، فجعله: ما أنـزلنا عليك القرآن إلا تذكرة، وكان بعض نحويي الكوفة يقول: نصبت على قوله: ما أنـزلناه إلا تذكرة، وكان بعضهم ينكر قول القائل: نصبت بدلا من قوله (لِتَشْقَى) ويقول: ذلك غير جائز، لأن (لِتَشْقَى) في الجحد، و ( إِلا تَذْكِرَةً ) في التحقيق، ولكنه تكرير، وكان بعضهم يقول: معنى الكلام: ما أنـزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى، لا لتشقى.

تفسير تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)

القول في تأويل قوله تعالى : تَنْزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا (4)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: هذا القرآن تنـزيل من الربّ الذي خلق الأرض والسموات العلى ، والعُلَى: جمع عليا.
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله (تَنـزيلا) فقال بعض نحويي البصرة: نصب ذلك بمعنى: نـزل الله تنـزيلا وقال بعض من أنكر ذلك من قيله هذا من كلامين، ولكن المعنى: هو تنـزيل، ثم أسقط هو، واتصل بالكلام الذي قبله، فخرج منه، ولم يكن من لفظه.
قال أبو جعفر: والقولان جميعا عندي غير خطأ.

تفسير الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5)

وقوله ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) يقول تعالى ذكره: الرحمن على عرشه ارتفع وعلا.
وقد بيَّنا معنى الاستواء بشواهده فيما مضى وذكرنا اختلاف المختلفين فيه فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. وللرفع في الرحمن وجهان: أحدهما بمعنى قوله: تنـزيلا فيكون معنى الكلام: نـزله من خلق الأرض والسموات، نـزله الرحمن الذي على العرش استوى ، والآخر بقوله ( عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) لأن في قوله استوى، ذكرا من الرحمن.

تفسير لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ (6)

القول في تأويل قوله تعالى : لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
يقول تعالى ذكره: لله ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، وما تحت الثرى، ملكا له، وهو مدبر ذلك كله، ومصرّف جميعه. ويعني بالثرى: الندى.
يقال للتراب الرطب المبتلّ: ثرى منقوص، يقال منه: ثريت الأرض تثرى، ثرى منقوص، والثرى: مصدر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ) والثَّرَى: كلّ شيء مبتلّ.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ) ما حفر من التراب مبتلا وإنما عنى بذلك: وما تحت الأرضين السبع.
كالذي حدثني محمد بن إبراهيم السليمي المعروف بابن صدران (5) . قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا محمد بن رفاعة، عن محمد بن كعب ( وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ) قال: الثرى: سبع أرضين.
-----------------------------
الهوامش :
(5) في الخلاصة للخزرجي : محمد بن إبراهيم بن صدران بضم المهملة الأولى ، الأزدي ، بتحتانية بعد اللام المكسورة .

تفسير وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
يقول تعالى ذكره: وإن تجهر يا محمد بالقول، أو تخف به، فسواء عند ربك الذي له ما في السموات وما في الأرض ( فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ ) يقول: فإنه لا يخفى عليه ما استسررته في نفسك، فلم تبده بجوارحك ولم تتكلم بلسانك، ولم تنطق به وأخفى.
ثم اختلف أهل التأويل في المعني بقوله (وأخْفَى) فقال بعضهم: معناه:
وأخفى من السرّ، قال: والذي هو أخفى من السرّ ما حدّث به المرء نفسه ولم يعمله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال: السرّ: ما عملته أنت وأخفى: ما قذف الله في قلبك مما لم تعمله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) يعني بأخفى: ما لم يعمله، وهو عامله; وأما السرّ: فيعني ما أسرّ في نفسه.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال: السرّ: ما أسرّ ابن آدم في نفسه، وأخفى: قال: ما أخفى ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعمله، فالله يعلم ذلك، فعلمه فيما مضى من ذلك، وما بقي علم واحد، وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة، وهو قوله: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: السرّ: ما أسرّ الإنسان في نفسه; وأخفى: ما لا يعلم الإنسان مما هو كائن.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو، قالا ثنا أبو عاصم، عن عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال: أخفى: الوسوسة، زاد ابن عمرو والحارث في حديثيهما: والسرّ: العمل الذي يسرّون من الناس.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (وأخْفَى) قال: الوسوسة.
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، في قوله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال: أخفى حديث نفسك.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا الحسين بن الحسن الأشقر، قال: ثنا أبو كُدَينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال: السرّ: ما يكون في نفسك اليوم، وأخفى: ما يكون في غد وبعد غد، لا يعلمه إلا الله.
وقال آخرون: بل معناه: وأخفى من السرّ ما لم تحدّث به نفسك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الفضل بن الصباح، قال: ثنا ابن فضيل، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، في قوله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال: السرّ: ما أسررت في نفسك، وأخفى من ذلك: ما لم تحدّث به نفسك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) كنا نحدّث أن السرّ ما حدّثت به نفسك، وأن أخفى من السرّ: ما هو كائن مما لم تحدث به نفسك.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا أبو هلال، قال: ثنا قتادة، في قوله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال: يعلم ما أسررت في نفسك، وأخفى: ما لم يكن هو كائن.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال: أخفى من السرّ: ما حدّثت به نفسك، وما لم تحدث به نفسك أيضا مما هو كائن.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) أما السرّ: فما أسررت في نفسك، وأما أخفى من السرّ: فما لم تعمله وأنت عامله، يعلم الله ذلك كله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنه يعلم سرّ العباد، وأخفى سرّ نفسه، فلم يطلع عليه أحدا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال: يعلم أسرار العباد، وأخفى سرّه فلا يعلم.
قال أبو جعفر: وكأن الذين وجهَّوا ذلك إلى أن السرّ هو ما حدّث به الإنسان غيره سرّا، وأن أخفى: معناه: ما حدّث به نفسه، وجهوا تأويل أخفى إلى الخفيّ. وقال بعضهم: قد توضع أفعل موضع الفاعل، واستشهدوا لقيلهم ذلك بقول الشاعر:
تَمَنَّـى رِجـالٌ أنْ أمُـوتَ وإنْ أمُـتْ
فَتِلْـكَ طَـرِيقٌ, لَسْـتُ فِيهـا بـأوْحَدِ (6)
والصواب من القول في ذلك، قول من قال: معناه: يعلم السرّ وأخفى من السرّ، لأن ذلك هو الظاهر من الكلام; ولو كان معنى ذلك ما تأوّله ابن زيد، لكان الكلام: وأخفى الله سرّه، لأن أخفى: فعل واقع متعدّ، إذ كان بمعنى فعل على ما تأوّله ابن زيد، وفي انفراد أخفى من مفعوله، والذي يعمل فيه لو كان بمعنى فعل الدليل الواضح على أنه بمعنى أفعل. وأن تأويل الكلام: فإنه يعلم السرّ وأخفى منه. فإذا كان ذلك تأويله، فالصواب من القول في معنى أخفى من السرّ أن يقال: هو ما علم الله مما أخفى عن العباد، ولم يعلموه مما هو كائن ولم يكن، لأن ما ظهر وكان فغير سرّ، وأن ما لم يكن وهو غير كائن فلا شيء، وأن ما لم يكن وهو كائن فهو أخفى من السرّ، لأن ذلك لا يعلمه إلا الله، ثم من أعلمه ذلك من عباده.
---------------------------------
الهوامش :
(6) ورد هذا البيت في مقطوعة خمسة أبيات كتب بها الوليد بن عبد الملك لما مرض وقد بلغه عن أخيه سليمان أنه تمنى موته ، لما له من العهد بعده ، فعاتبه الوليد في كتابه وفيه هذه الأبيات ، وأولها : " تمنى رجال . . . إلخ " . ذكرها المسعودي في ( مروج الذهب ، طبعة دار الرجاء 3 : 103 ) والشاهد في قوله بأوحد ، فإنه بمعنى : بواحد .