تفسير سورة الحج تفسير الطبري

تفسير سورة الحج بواسطة تفسير الطبري هذا ما سنستعرض بإذن الله سويًا ،هي سورة مدنية وجاء ترتيبها 22 في المصحف الكريم وعدد آياتها 78.

تفسير آيات سورة الحج

من
إلى
المفسرون

تفسير يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الناس احذروا عقاب ربكم بطاعته فأطيعوه ولا تعصوه، فإن عقابه لمن عاقبه يوم القيامة شديد.
ثم وصف جلّ ثناؤه هول أشراط ذلك اليوم وبدوه، فقال: ( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ).
واختلف أهل العلم في وقت كون الزلزلة التي وصفها جلّ ثناؤه بالشدة، فقال بعضهم: هي كائنة في الدنيا قبل يوم القيامة.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، في قوله ( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) قال: قبل الساعة.
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن عامر ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) قال: هذا في الدنيا قبل يوم القيامة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جُرَيج في قوله ( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ ) فقال: زلزلتها: أشراطها. الآيات ( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ) .
حدثنا ابن حميد: ثنا جرير، عن عطاء، عن عامر ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) قال: هذا في الدنيا من آيات الساعة.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ما قال هؤلاء خبر في إسناده نظر (1) ، وذلك ما: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد بن أبي زياد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَمَّا فَرَغَ اللهُ مِنَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، خَلَقَ الصُّورَ فَأَعْطَاهُ إِسْرَافِيلَ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ، شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إِلَى العَرْشِ، يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ. قال أبو هريرة: يا رسول الله، وما الصور؟ قال: قَرْنٌ. قال: وكيف هو؟ قال: قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفْخاتٍ: الأولى: نَفْخَةُ الفَزَعِ، والثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَالثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ القِيامِ لِرَبّ العَالَمِينَ. يَأْمُرُ اللهُ عَزّ وَجَلَّ إِسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الأُولَى، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ ، فَيَفْزَعُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللهُ، وَيَأْمُرُه اللهُ فَيُدِيمُها ويُطوِّلُها، فَلا يَفْتَر، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللُه وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ فَيُسَيِّرُ اللهُ الجِبَالَ فَتَكُونُ سَرَابًا، وَتُرَجُّ الأَرْضُ بِأَهْلِهَا رَجًّا، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللهُ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ فَتَكُونُ الأَرْضُ كَالسَّفِينَةِ المُوبِقَةِ فِي البَحْرِ تَضْرِبُهَا الأَمْوَاجُ تُكْفَأُ بِأَهْلِهَا، أَوْ كَالْقَنْدِيلِ المُعَلَّقِ بِالعَرْشِ تَرُجِّحُهُ الأَرْوَاحُ فَتَمِيُد النَّاسُ عَلى ظُهُرِها، فَتَذْهَلُ المَرَاضِعُ، وتَضَعُ الحَوَامِلُ، وَتَشِيبُ الوِلْدَان، وَتَطِيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبَةً حتى تَأْتي الأقْطار، فَتَلَقَّاهَا المَلائِكَةُ فَتَضْرِبُ وُجُوهَهَا، فَتَرْجِعُ وَيُوَلّي النَّاسُ مُدْبِرِينَ يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللهُ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلى ذلكَ، إِذْ تَصَدَّعَت الأَرْضُ مِنْ قُطْرٍ إلى قُطْرٍ، فَرَأوْا أمْرًا عظيمًا، وَأَخَذَهُم لِذَلِكَ مِنَ الكَرْبِ ما اللهُ أَعْلَمُ بِهِ، ثُمَّ نَظَرُوا إلى السَّمَاءِ فَإِذَا هِيَ كَالمُهْلِ، ثُمَّ خُسِفَ شَمْسُهَا وَخُسِفَ قَمَرُها وَانْتَثَرَتْ نُجُومُها، ثُمَّ كُشِطَتْ عَنْهُمْ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والأَمْوَاتُ لا يَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذلكَ ، فقال أبو هريرة: فمن استثنى الله حين يقول فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ قال: أُولَئِكَ الشُّهَداءُ، وَإِنَّمَا يَصِلُ الفَزَعُ إلى الأَحْيَاءِ ، أُولَئِكَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وَقَاهُمُ اللهُ فَزَعَ ذلكَ اليَوْمِ وَآمَنَهُمْ، وَهُوَ عَذَابُ اللهِ يَبْعَثُهُ عَلَى شِرَارِ خَلْقِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) ... إلى قوله ( وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) ".
وهذا القول الذي ذكرناه عن علقمة والشعبيّ ومن ذكرنا ذلك عنه، قولٌ لولا مجيء الصحاح من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بمعاني وحي الله وتنـزيله.
والصواب من القول في ذلك ما صح به الخبر عنه.
*ذكر الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا: حدثني أحمد بن المقدام، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي يحدّث عن قتادة، عن صاحب له حدثه، عن عمران بن حُصين، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه وقد فاوت السَّير بأصحابه، إذ نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) ". قال: فحثُّوا المطيّ، حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " هَلْ تَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ ذَلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذلكَ يَوْمَ يُنَادَى آدَمُ، يُنَادِيهِ رَبُّهُ: ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ إلى النَّارِ ، قال: فأبلس القوم، فما وضح منهم ضاحك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ألا اعْمَلُوا وَأبْشِرُوا، فَإِنّ مَعَكُمْ خَلِيقَتَيْنِ ما كَانَتَا فِي قَوْمٍ إلا كَثَّرتاهُ، فَمَنْ هَلَكَ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَمَنْ هَلَكَ مِنْ بَنِي إِبْلِيسَ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ. قال: أَبْشِرُوا، مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلا كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ البَعِيرِ، أو كالرّقمة في جَناحِ الدَّابَّةِ".
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا هشام بن أبي &; 18-560 &; عبد الله، عن قَتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وحدثنا ابن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنا أبي، وحدثنا ابن أبي عدي، عن هشام جميعا، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا محمد بن بشر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن العلاء بن زياد عن عمران، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا عوف، عن الحسن، قال: " بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة العُسْرة، ومعه أصحابه، بعد ما شارف المدينة، قرأ ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا ... الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَتَدْرُونَ أَيّ يَوْمٍ ذَاكُمْ ؟ قيل: الله ورسوله أعلم. فذكر نحوه، إلا أنه زاد: وَإنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولانِ إلا كَانَ بَيْنَهُمَا فَتْرَةٌ مِنَ الجَاهِلِيّةِ، فَهُمْ أَهْلُ النَّارِ وَإِنَّكُمْ بَيْنَ ظَهْرَانيْ خَلِيقَتَينِ لا يعادّهما أحدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ إِلا كَثَّرُوهْم، وَهُمْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ، وَهُمْ أَهْلُ النَّارِ، وَتَكْمُلُ العِدَّةُ مِنَ المُنَافِقِينَ".
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: يُقَالُ لآدَمَ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قالَ: فَيَقُولُ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ. فَعِنْدَ ذلكَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ الحَامِلُ حَمْلَهَا ، وَتَرى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ . قال: قُلْنَا فَأين الناجي يا رسول الله؟ قال: أَبْشِرُوا، فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ وَأَلْفا مِنْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ . ثُمَّ قالَ: إِنِّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الجَنةِ، فَكَبَّرْنَا وَحَمَدْنَا اللهَ. ثم قال: " إنِّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنةِ ، فَكَبَّرْنَا وَحَمِدْنَا اللهَ. ثم قال: إنّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنّة، إنَّمَا مَثَلُكُمْ فِي النَّاسِ كَمَثَلِ الشَّعْرَةِ البَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَسْوَدِ، أَوْ كَمَثَلِ الشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَبْيَضِ".
حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخُدْريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يَقُول اللهُ لآدَمَ يَوْمَ القِيامَةِ " ثم ذكر نحوه.
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي سعيد، قال: " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحشر، قال: يقولُ اللهُ يومَ القِيامَةِ يا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيكَ وَسَعْدَيْكَ وَالخَيْرُ بِيَدَيْكَ فَيَقُولُ: ابْعَثْ بَعْثا إلى النَّارِ ". ثم ذكر نحوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قَتادة، عن أنس قال: " نـزلت ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) ... حتى إلى ( عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) ... الآية على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في مسير، فرجَّع بها صوته، حتى ثاب إليه أصحابه، فقال: " أتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ هَذَا؟ هَذَا يَوْمَ يَقُولُ اللهُ لآدَمَ: يا آدَمُ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ! " فكبر ذلك على المسلمين، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " سَدّدُوا وَقَارِبُوا وَأبْشِرُوا، فَوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما أنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلا كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ البَعِيرِ، أو كالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ، وِإنَّ مَعَكُمْ لَخَلِيقَتَيْنِ ما كَانَتَا فِي شِيْءٍ قَطْ إِلا كَثَّرَتَاهُ: يَأجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَمَنْ هَلَكَ مِنْ كَفَرَةِ الجِنِّ وَالإنْسِ".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال ابن ثور، عن معمر، عن إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: دخلت على ابن مسعود بيت المال، فقال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: " أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قلنا نعم، قال: أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قلنا: نعم قال: فَوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونوا شَطْرَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذلكَ، إنَّه لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وإنَّ قِلَّةَ المُسْلِمِينَ فِي الكُفَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَبْيَضِ، أو كالشَّعْرَةِ البَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَسْوَدِ ".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) قال: هذا يوم القيامة.
والزلزلة مصدر من قول القائل: زلزلتُ بفلان الأرض أزلزلها زلزلة وزِلزالا بكسر الزاي من الزلزال، كما قال الله إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وكذلك المصدر من كل سليم من الأفعال إذا جاءت على فِعلان فبكسر أوّله، مثل وسوس وسوسة ووِسواسا، فإذا كان اسما كان بفتح أوّله الزَّلزال والوَسواس، وهو ما وسوس إلى الإنسان، كما قال الشاعر:
يَعْــرِف الجـاهِلُ المُضَلَّـلُ أَنَّ الـدَّ
هْــرَ فِيــهِ النَّكْــرَاءُ والزَّلْــزَالُ (2)
وقوله تعالى ( يَوْمَ تَرَوْنَهَا ) يقول جلّ ثناؤه: يوم ترون أيها الناس زلزلة الساعة تذهل من عظمها كل مرضعة مولود عما أرضعت، ويعني بقوله ، (تَذْهَلُ) تنسى وتترك من شدّة كربها، يقال: ذَهَلْت عن كذا أذْهَلُ عنه ذُهُولا وذَهِلْت أيضا، وهي قليلة، والفصيح: الفتح في الهاء، فأما في المستقبل فالهاء مفتوحة في اللغتين، لم يسمع غير ذلك، ومنه قول الشاعر:
صَحَا قَلْبُهُ يا عَزَّ أوْ كادَ يَذْهَل (3)
فأما إذا أريد أن الهول أنساه وسلاه، قلت: أذهله هذا الأمر عن كذا يُذهله إذهالا. وفي إثبات الهاء في قوله ( كُلُّ مُرْضِعَةٍ ) اختلاف بين أهل العربية وكان بعض نحويي الكوفيين يقول: إذا أثبتت الهاء في المرضعة فإنما يراد أم الصبي المرضع، وإذا أسقطت فإنه يراد المرأة التي معها صبيّ ترضعه، لأنه أريد الفعل بها. قالوا: ولو أريد بها الصفة فيما يرى لقال مُرْضع. قال: وكذلك كل مُفْعِل أو فاعل يكون للأنثى ولا يكون للذكر، فهو بغير هاء، نحو: مُقْرب، ومُوقِر، ومُشْدن، وحامل، وحائض. (4)
قال أبو جعفر: وهذا القول عندي أولى بالصواب في ذلك، لأن العرب من شأنها إسقاط هاء التأنيث من كل فاعل ومفعل إذا وصفوا المؤنث به، ولو لم يكن للمذكر فيه حظ، فإذا أرادوا الخبر عنها أنها ستفعله ولم تفعله، أثبتوا هاء التأنيث ليفرقوا بين الصفة والفعل. منه قول الأعشى فيما هو واقع ولم يكن وقع قبل:
أيــا جارَتــا بِينِـي فـإنَّك طالِقـهْ
كَـذَاكَ أُمُـورُ النـاسِ غـادٍ وطارِقَهْ (5)
وأما فيما هو صفة، نحو قول امرئ القيس:
فمثْلُـكِ حُـبْلَى قَـدْ طَـرَقْتُ وَمُرْضِعٌ
فَأَلْهَيْتُهَــا عَــنْ ذِي تَمـائِمَ مُحْـوِل (6)
وربما أثبتوا الهاء في الحالتين وربما أسقطوهما فيهما، غير أن الفصيح من كلامهم ما وصفت.
فتأويل الكلام إذن: يوم ترون أيها الناس زلزلة الساعة، تنسى وتترك كل والدة مولود ترضع ولدها عما أرضعت.
----------------------
الهوامش :
(1) لعل المراد بأن في إسناده نظرا : أن فيه رجلين مجهولين من الأنصار .
(2) البيت شاهد على أن المصدر الرباعي المضعف إذا جاء على " فعلا " فهو بكسر الفاء ، فإذا فتحت الفاء فهو اسم للمصدر ، وليس بمصدر ، كما في البيت . قال في ( اللسان : زلل ) : والزلزلة والزلزال ( بالفتح ) : تحريك الشيء ، وقد زلزله زلزلة وزلزالا ( بكسر الزاي في الثاني ) وقد قالوا : إن الفعلال ( بالفتح ) والزلزال ( بالكسر ) مطرد في جميع مصادر المضاعف . والاسم الزلزال ( بالفتح ) . وليس في الكلام فعلال ، بفتح الفاء إلا في المضعف نحو الصلصال والزلزال . وقال أبو إسحاق والزلزال بالكسر : المصدر ، والزلزال ، بالفتح : الاسم ، وكذلك الوسواس : المصدر ، والوسواس الاسم . أه .
(3) هذا مطلع قصيدة لكثير بن عبد الرحمن الخزاعي المشهور ( بكثير عزة ) في مدح عبد الملك بن مروان ، ومصراعه الثاني * وأضحـى يريـد الصرم أو يتبدل *
( ديوانه طبع الجزائر 2 : 28 ) قال شارحه : قوله " صحا قلبه " : قال في الاقتضاب : قال ابن قتيبة : وأصحت السماء العاذلة وصحا من السكر . أما السماء فلا يقال فيها إلا أصحت بالألف وأما السكر فلا يقال فيه إلا صحا بغير ألف وأما الإفاقة من الحب فلم أسمع فيه إلا صحا بغير الألف ، كالسكر . وهو شاهد على الفعل تذهل في ماضيه لغتان فتح الهاء وكسرها ، والأولى أفصح اللغتين . وقال في ( اللسان : ذهل ) : وفي التنزيل العزيز : " يوم تذهل كل مرضعة " أي تسلو عن ولدها . ابن سيدة : ذهل الشيء وذهل عنه وذهله وذهل الكسر يذهل فيهما ذهلا وذهولا : تركه على عمد أو غفل عنه أو نسيه لشغل . وقيل : الذهل : السلو والطيب النفس عن الإلف . وقد أذهله الأمر ، وذهله عنه . أه .
(4) يتأمل في هذا المقام ويراجع اللسان فإنه أبسط .
(5) البيت لأعشى بن قيس بن ثعلبة ، من قصيدة له قالها لامرأته الهزانية ( ديوانه طبع القاهرة بشرح الدكتور محمد حسين ، ص 263 ) والرواية فيه : يا جارتي . قال شارحه : الجارة هنا : زوجته . بيني : أي فارقي . غاد وطارقة : ذكر ( غاد ) على إرادة الجمع ، وأنث ( طارقة ) على إرادة الجماعة . والغادي : الذي يأتي عدوه في الصباح . والطارق الذي يطرق ، أي يأتي ليلا . وأنشده صاحب ( اللسان : طلق ) قال ابن الأعرابي : طلقت ( بضم اللام ) من الطلاق : أجود ، وطلقت بفتح اللام - جائز . وكلهم يقول : امرأة طالق ، بغير هاء . وأما قول الأعشى * أيـا جارتـا بيينـى فـإنك طالقه *
فإن الليث قال : أراد : طالقة غدا . قال غيره قال طالقة على الفعل ، لأنها يقال ها قد طلقت ، فبنى النعت على الفعل ، وطلاق المرأة : بينونتها عن زوجها . وامرأة طالق من نسوة طلق ، وطالقة من نسوة طوالق وأنشد قول الأعشى : * أجارتنــا بينـي فـإنك طالقـه *
. . . البيت .
(6) البيت من معلقة امرئ القيس بن حجر الكندي ( مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ، ص 25 ) قال شارحه : طرقت : أتيت . والتمائم : عوذ تعلق على الطفل . ومحول : أي تم له حول ، يقال : أحول الصبي فهو محول ، ويروى : مغيل . وهو الذي ترضعه أمه وهي حلبي ؛ يقال : أغالت المرأة ولدها ، فهي مغيل ( بكسر الغين ) ، وأغليته فهي مغيل ، ( بسكون الغين وكسر الياء ) ؛ سقته الغيل ، وهو لبن الحبلى ، والولد : مغال ومغيل . والشاهد في البيت أن " مرضع " بدون هاء . هو من الأوصاف الخاصة بالنساء دون الرجال ، وهو لذلك مستعين عن الهاء التي تدخل في الصفات للتفرقة بين الذكر والمؤنث فأما قوله تعالى : " يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت" بالهاء في مرضعة ، فإنما يراد به المرأة التي معها صبي ترضعه ، فهي متلبسة بالفعل ، فالفعل مراد هنا ، والصفة حينئذ تجري على الفعل في التذكير والتأنيث ، يقال أرضعت أو ترضع الأم وليدها ، فهي مرضعة له . فأما الأنثى التي من شأنها أن تكون مرضعا ولم تتلبس بالفعل ، فإنما يقال لها مرضع بلا هاء تأنيث ، لأن هذا وصف خاص بالإناث فلا حاجة فيه إلى الهاء للفرق .

تفسير يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُمْ بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)

كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ) قال: تترك ولدها للكرب الذي نـزل بها.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر، عن الحسن ( تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ) قال: ذهلت عن أولادها بغير فطام ( وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ) قال: ألقت الحوامل ما في بطونها لغير تمام، ( وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ) يقول: وتسقط كل حامل من شدة كرب ذلك حملها.
وقوله ( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ) قرأت قرّاء الأمصار ( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى) على وجه الخطاب للواحد، كأنه قال: وترى يا محمد الناس حينئذ سُكارى وما هم بسُكارى. وقد رُوي عن أبي زُرْعة بن عمرو بن جرير (وَتُرَى النَّاسَ) بضم التاء ونصب الناس، من قول القائل: أرِيْت تُرى، التي تطلب الاسم والفعل (7) ، كظنّ وأخواتها.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار، لإجماع الحجة من القرّاء.
واختلف القرّاء في قراءة قوله ( سُكارَى ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة ( سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ) . وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة ( وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى ومَا هُمْ بِسَكْرَى) .
والصواب من القول في ذلك عندنا، أنهما قراءتان مستفيضتان في قَرأة الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب، ومعنى الكلام: وترى الناس يا محمد من عظيم ما نـزل بهم من الكرب وشدّته سُكارى من الفزع وما هم بسكارى من شرب الخمر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك : قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر، عن الحسن ( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ) من الخوف ( وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ) من الشراب.
قال ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله ( وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ) قال: ما هُم بسكارى من الشراب، ( وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ) قال: ما شربوا خمرا يقول تعالى ذكره: ( وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) يقول تعالى ذكره : ولكنهم صاروا سكارى من خوف عذاب الله عند معاينتهم ما عاينوا من كرب ذلك وعظيم هوله، مع علمهم بشدة عذاب الله.
----------------------------------
الهوامش :
(7) لعل الصواب : الاسم والخبر . لأن ظن ورأى وأعلم تدخل على الجملة الاسمية من المبتدأ والخبر .

تفسير وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)

ذكر أن هذه الآية نـزلت في النضر بن الحارث.
حدثنا القاسم، فال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) قال: النضر بن الحارث (8) . ويعني بقوله ( مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) من يخاصم في الله، فيزعم أن الله غير قادر على إحياء من قد بلي وصار ترابا، بغير علم يعلمه، بل بجهل منه بما يقول.(وَيَتَّبِعُ ) في قيله ذلك وجداله في الله بغير علم ( كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ) .
----------------------
الهوامش :
(8) كان النضر بن الحارث بن كلدة قد أخذ الطب والفلسفة مع أبيه في الحيرة .

تفسير كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ (4)

يقول تعالى ذكره: قضي على الشيطان، فمعنى (كُتِبَ) ههنا قُضِي، والهاء التي في قوله عليه من ذكر الشيطان.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر عن قتادة ( كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ ) قال: كُتب على الشيطان، أنه من اتبع الشيطان من خلق الله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله ( كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ ) قال: الشيطان اتبعه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد ( أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ ) ، قال: اتبعه.
وقوله ( فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ) يقول: فإن الشيطان يضله، يعني: يضل من تولاه. والهاء التي في " يضله عائدة على " من " التي في قوله ( مَنْ تَوَلاهُ ) وتأويل الكلام: قُضي على الشيطان أنه يضلّ أتباعه ولا يهديهم إلى الحق.
وقوله ( وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ) يقول: ويَسُوقُ مَنِ اتَّبَعَهُ إلى عذاب جهنم الموقدة، وسياقه إياه إليه بدعائه إلى طاعته ومعصية الرحمن، فذلك هدايته من تبعه إلى عذاب جهنم.

تفسير يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)

وهذا احتجاج من الله على الذي أخبر عنه من الناس أنه يجادل في الله بغير علم، اتباعا منه للشيطان المريد ، وتنبيه له على موضع خطأ قيله، وإنكاره ما أنكر من قدرة ربه. قال: يا أيها الناس إن كنتم في شكّ من قدرتنا على بعثكم من قبوركم بعد مماتكم وبلاكم استعظاما منكم لذلك، فإن في ابتدائنا خلق أبيكم آدم صلى الله عليه وسلم من تراب ثم إنشائناكم من نطفة آدم ، ثم تصريفناكم أحوالا حالا بعد حال، من نطفة إلى علقة، ثم من علقة إلى مضغة، لكم معتبرا ومتعظا تعتبرون به، فتعلمون أن من قدر على ذلك فغير متعذّر عليه إعادتكم بعد فنائكم كما كنتم أحياء قبل الفناء.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله مخلقة وغير مخلّقة، فقال بعضهم: هي من صفة النطفة. قال: ومعنى ذلك: فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة مخلَّقة وغير مخلقة قالوا: فأما المخلقة فما كان خلقا سَوِيّا وأما غير مخلقة، فما دفعته الأرحام ، من النطف ، وألقته قبل أن يكون خلقا.
ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله، قال: إذا وقعت النطفة في الرحم، بعث الله ملَكا فقال: يا ربّ مخلقة ، أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلَّقة، مجّتها الأرحام دما، وإن قال: مخلقة، قال: يا ربّ فما صفة هذه النطفة ، أذكر أم أنثى؟ ما رزقها ما أجلها؟ أشقيّ أو سعيد؟ قال: فيقال له: انطلق إلى أمّ الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة! قال: فينطلق الملك فينسخها فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها.
وقال آخرون: معنى ذلك: تامة وغير تامة.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله ( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) قال: تامة وغير تامة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن قتادة ( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) فذكر مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك المضغة مصوّرة إنسانا وغير مصوّرة، فإذا صورت فهي مخلقة وإذا لم تصوّر فهي غير مخلقة.
ذكر من قال ذلك: ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله ( مُخَلَّقَةٍ ) قال: السِّقط، ( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ).
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله ( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) قال: السقط، مخلوق وغير مخلوق.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر أنه قال في النطفة والمضغة إذا نكست في الخلق الرابع، كانت نسمة مخلقة، وإذا قذفتها قبل ذلك فهي غير مخلقة.
قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن أبي سلمة، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية ( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) قال: السقط.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: المخلقة المصورة خلقا تاما، وغير مخلقة: السِّقط قبل تمام خلقه، لأن المخلقة وغير المخلقة من نعت المضغة والنطفة بعد مصيرها مضغة، لم يبق لها حتى تصير خلقا سويا إلا التصوير، وذلك هو المراد بقوله ( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) خلقا سويا، وغير مخلقة بأن تلقيه الأم مضغة ولا تصوّر ولا ينفخ فيها الروح.
وقوله ( لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ) يقول تعالى ذكره: جعلنا المضغة منها المخلقة التامة ومنها السقط غير التام، لنبين لكم قدرتنا على ما نشاء ونعرفكم ابتداءنا خلقكم.
وقوله ( وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) يقول تعالى ذكره: من كنا كتبنا له بقاء وحياة إلى أمد وغاية، فإنا نقرّه في رحم أمه إلى وقته الذي جعلنا له أن يمكث في رحمها، فلا تسقطه ، ولا يخرج منها حتى يبلغ أجله، فإذا بلغ وقت خروجه من رحمها أذنا له بالخروج منها، فيخرج.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) قال: التمام.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) قال: الأجل المسمى: إقامته في الرحم حتى يخرج.
وقوله ( ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ) يقول تعالى ذكره: ثم نخرجكم من أرحام أمهاتكم إذا بلغتم الأجل الذي قدرته لخروجكم منها طفلا صغارا ووحد الطفل ، وهو صفة للجميع، لأنه مصدر مثل عدل وزور.
وقوله ( ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ) يقول: ثم لتبلغوا كمال عقولكم ونهاية قواكم بعمركم.
وقد ذكرت اختلاف المختلفين في الأشد، والصواب من القول فيه عندنا بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
"5"
القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
يقول تعالى ذكره: ومنكم أيها الناس من يتوفى قبل أن يبلغ أشدّه فيموت، ومنكم من يُنْسَأ في أجله فيعمر حتى يهرم ، فيردّ من بعد انتهاء شبابه وبلوغه غاية أشده ، إلى أرذل عمره، وذلك الهرم، حتى يعود كهيئته في حال صباه لا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئا.
ومعنى الكلام: ومنكم من يرد إلى أرذل العمر بعد بلوغه أشده ( لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ ) كان يعلمه (شَيْئًا ) .
وقوله ( وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً ) يقول تعالى ذكره: وترى الأرض يا محمد يابسة دارسة الآثار من النبات والزرع، وأصل الهمود: الدروس والدثور، ويقال منه: همدت الأرض تهمد هُمودا ؛ ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس:
قــالَتْ قُتَيْلَـةُ مـا لِجِسِـمَك شـاحِبا
وأرَى ثِيـــابكَ بالِيـــاتٍ هُمَّــدَا (9)
والهُمَّد: جمع هامد، كما الركع جمع راكع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، في قوله ( وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً ) قال: لا نبات فيها.
وقوله ( فَإِذَا أَنـزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ ) يقول تعالى ذكره: فإذا نحن أنـزلنا على هذه الأرض الهامدة التي لا نبات فيها ، المطر من السماء اهتزّت يقول: تحركت بالنبات، (وَرَبَتْ) يقول: وأضعفت النبات بمجيء الغيث.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قَتادة ( اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ) قال: عُرِف الغيث في ربوها.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة ( اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ) قال: حسنت، وعرف الغيث في ربوها.
وكان بعضهم يقول: معنى ذلك: فإذا أنـزلنا عليها الماء اهتزت، ويوجه المعنى إلى الزرع، وإن كان الكلام مخرجه على الخبر عن الأرض، وقرأت قراء الأمصار ( وَرَبَتْ ) بمعنى: الربو، الذي هو النماء والزيادة.
وكان أبو جعفر القارئ يقرأ ذلك (وَرَبَأَتْ) بالهمز.
حُدثت عن الفراء، عن أبي عبد الله التميمي عنه، وذلك غلط، لأنه لا وجه للرب ههنا، وإنما يقال: ربأ بالهمز بمعنى حرس من الربيئة، ولا معنى للحراسة في هذا الموضع، والصحيح من القراءة ما عليه قراء الأمصار.
وقوله ( وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) يقول جلّ ثناؤه: وأنبتت هذه الأرض الهامدة بذلك الغيث من كل نوع بهيج، يعني بالبهيج ، البهج، وهو الحسن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قَتادة ( وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) قال: حسن.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، مثله.
--------------------------
الهوامش :
(9) البيت لأعشى بن قيس بن ثعلبة ( ديوانه طبع القاهرة بشرح الدكتور محمد حسين ، ص 227 ) . وهو من قصيدة قالها لكسرى حين أراد منهم رهائن ، لما أغار الحارث بن وعلة على بعض السواد . والرواية فيه " سايئا " في موضع " شاحبا " . قال في تفسيره : سايئ : يسوء من رآه . وهمد الثوب تقطع من طول الطي ينظر إليه الناظر فيحسبه صحيحا ، فإذا مسه تناثر من البلى ، ومثله في ( اللسان : همد ) : ( وترى الأرض هامدة ) : أي جافة ذات تراب . وأرض هامدة : مقشعرة ، لا نبات فيها إلا اليابس المتحطم ، وقد أهمدها القحط . أه .

تفسير ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)

يعني تعالى ذكره بقوله: ذلك هذا الذي ذكرت لكم أيها الناس من بدئنا خلقكم في بطون أمهاتكم، ووصفنا أحوالكم قبل الميلاد وبعده، طفلا وكهلا وشيخا هرما وتنبيهنا لكم على فعلنا بالأرض الهامدة بما ننـزل عليها من الغيث، لتؤمنوا وتصدّقوا بأن ذلك الذي فعل ذلك الله الذي هو الحقّ لا شك فيه، وأن من سواه مما تعبدون من الأوثان والأصنام باطل لأنها لا تقدر على فعل شيء من ذلك، وتعلموا أن القدرة التي جعل بها هذه الأشياء العجيبة لا يتعذّر عليها أن يحيي بها الموتى بعد فنائها ودروسها في التراب، وأن فاعل ذلك على كلّ ما أراد وشاء من شيء قادر لا يمتنع عليه شيء أراده.

تفسير وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)

ولتوقنوا بذلك أن الساعة التي وعدتكم أن أبعث فيها الموتى من قبورهم جاثية لا محالة ( لا رَيْبَ فِيهَا ) يقول: لا شك في مجيئها وحدوثها، ( وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) حينئذ من فيها من الأموات أحياء إلى موقف الحساب، فلا تشكوا في ذلك ، ولا تمترُوا فيه.