تفسير سورة آل عمران تفسير الطبري

تفسير سورة آل عمران بواسطة تفسير الطبري هذا ما سنستعرض بإذن الله سويًا ،هي سورة مدنية وجاء ترتيبها 3 في المصحف الكريم وعدد آياتها 200.

تفسير آيات سورة آل عمران

من
إلى
المفسرون

تفسير الم (1)

القول في تأويل قوله : الم (1)
قال أبو جعفر: قد أتينا على البيان عن معنى قوله: " الم " فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) وكذلك البيان عن قوله: " الله ". (3)
_____________________
الهوامش :
(1) في المطبوعة: "أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري ، رضي الله عنه" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 1: 205-224.
(3) انظر ما سلف 1: 122-126.

تفسير اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)

وأما معنى قوله: " لا اله إلا هو "، فإنه خبرٌ من الله جل وعز، أخبرَ عبادَه أن الألوهية خاصةٌ به دون ما سواه من الآلهة والأنداد، وأن العبادة لا تصلحُ ولا تجوز إلا له لانفراده بالربوبية، وتوحُّده بالألوهية، وأن كل ما دونه فملكه، وأنّ كل ما سواه فخلقه، لا شريك له في سلطانه ومُلكه = (4) احتجاجًا منه تعالى ذكره عليهم بأن ذلك إذْ كان كذلك، فغيرُ جائزة لهم عبادةُ غيره، ولا إشراك أحد معه في سلطانه، إذ كان كلّ معبود سواه فملكه، وكل معظَّم غيرُه فخلقهُ، وعلى المملوك إفرادُ الطاعة لمالكه، وصرفُ خدمته إلى مولاه ورازقه = ومعرِّفًا مَنْ كان مِنْ خَلقه (5) يَوم أنـزل ذلك إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بتنـزيله ذلك إليه، وإرساله به إليهم على لسانه صلوات الله عليه وسلامه - (6) مقيمًا على عبادة وثن أو صنم أو شمس أو قمر أو إنسي أو مَلَك أو غير ذلك من الأشياء التي كانت بنو آدم مقيمةً على عبادته وإلاهته (7) - (8) ومتَّخذَه دون مالكه وخالقه إلهًا وربًّا = (9) أنه مقيم على ضلالة، ومُنعدلٌ عن المحجة، (10) وراكبٌ غير السبيل المستقيمة، بصرفه العبادة إلى غيره، ولا أحدَ له الألوهية غيره.
* * *
قال أبو جعفر: وقد ذُكر أن هذه السورة ابتدأ الله بتنـزيله فاتحتها بالذي ابتدأ به: من نفي" الألوهية " أن تكون لغيره، ووصفه نفسه بالذي وصَفها به في ابتدائها، احتجاجًا منه بذلك على طائفة من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نَجْرَان فحاجُّوه في عيسى صلوات الله عليه، وألحدوا في الله. فأنـزل الله عز وجل في أمرهم وأمر عيسى من هذه السورة نيفًا وثمانين آية من أولها، (11) احتجاجًا عليهم وعلى من كان على مثل مقالتهم، لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلا المقام على ضلالتهم وكفرهم، فدعاهم إلى المباهلة، فأبوا ذلك، وسألوا قَبول الجزية منهم، فقبلها صلى الله عليه وسلم منهم، وانصرفوا إلى بلادهم.
غير أن الأمر وإن كان كذلك، وإياهم قصد بالحِجاج، فإن من كان معناه من سائر الخلق معناهم في الكفر بالله، واتخاذ ما سوى الله ربًّا وإلهًا ومعبودًا، معمومون بالحجة التي حجّ الله تبارك وتعالى بها من نـزلت هذه الآيات فيه، ومحجوجون في الفُرْقان الذي فَرَق به لرسوله صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم. (12)
* * *
ذكر الرواية عمن ذكرنا قوله في نـزول افتتاح هذه السورة أنه نـزل في الذين وصفنا صفتهم من النصارى:-
6543 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران: (13) ستون راكبًا، فيهم أربعة عشرَ رجلا من أشرافهم، في الأربعة عشر ثلاثةٌ نفر إليهم يؤول أمرُهم: " العاقب " أميرُ القوم وذو رأيهم وصاحبُ مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمهُ" عبد المسيح " = و " السيد " ثِمالهم وصاحب رَحْلهم ومجتمعهم، واسمه " الأيهم " = (14) وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، أسقفُّهم وحَبْرهم وإمامهم وصاحبُ مِدْرَاسهم. (15) وكان أبو حارثة قد شرُف فيهم ودَرَس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه وموّلوه وأخدَموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم. (16) قال ابن إسحاق قال، محمد بن جعفر بن الزبير: (17) قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر، عليهم ثيابُ الحِبَرَات جُبب وأرْدية، في [جمال رِجال] بَلْحارث بن كعب= (18) قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: ما رأينا بعدهم وفدًا مثلهم! = وقد حانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:دعوهم! فصلوا إلى المشرق.
= قال: وكانت تسمية الأربعة عشر منهم الذين يؤول إليهم أمرهم: " العاقب "، وهو " عبد المسيح "، والسيد، وهو " الأيهم "، و " أبو حارثة بن علقمة " أخو بكر بن وائل، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، ونُبيه، وخويلد، وعمرو، (19) وخالد، وعبد الله. ويُحَنَّس: في ستين راكبًا. فكلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منهم: " أبو حارثة بن علقمة "، و " العاقب "، عبد المسيح، و " الأيهم " السيد، وهم من النصرانية على دين الملك، (20) مع اختلاف من أمرهم. يقولون: " هو الله "، ويقولون: " هو ولد الله "، ويقولون: " هو ثالث ثلاثة "، وكذلك قول النصرانية.
فهم يحتجون في قولهم: " هو الله "، بأنه كان يُحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرًا، وذلك كله بإذن الله، ليجعله آية للناس. (21)
ويحتجون في قولهم: " إنه ولد الله "، أنهم يقولون: " لم يكن له أب يُعلم، وقد تكلم في المهد، شيءٌ لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله ". (22)
ويحتجون في قولهم: " إنه ثالث ثلاثة "، بقول الله عز وجل: " فعلنا، وأمَرنا، وخلقنا، وقضينا ". فيقولون: " لو كان واحدًا ما قال: إلا " فعلت، وأمرتُ وقضيتُ، وخلقت "، ولكنه هو وعيسى ومريم ".
ففي كل ذلك من قولهم قد نـزل القرآن، وذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فيه قولهم.
فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلما! قالا قد أسلمنا. قال: إنكما لم تسلما، فأسلما! قالا بَلى قد أسلمنا قَبلك! قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله عز وجل ولدًا، وعبادتكما الصليبَ، وأكلكما الخنـزير. قالا فمنْ أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما، فأنـزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله، صدرَ" سورة آل عمران " إلى بضع وثمانين آية منها. فقال: " الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ " ، (23) فافتتح السورة بتبرئته نفسَه تبارك وتعالى مما قالوا، (24) وتوحيده إياها بالخلق والأمر، لا شريك له فيه = رَدًّا عليهم ما ابتدعوا من الكفر، (25) وجعلوا معه من الأنداد = واحتجاجًا عليهم بقولهم في صاحبهم، ليعرّفهم بذلك ضلالتهم، فقال: " اللهُ لا إله إلا هو "، أي: ليس معه شريك في أمره. (26)
6544 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: " الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ " ، قال: إنّ النصارى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخاصموه في عيسى ابن مريم وقالوا له: من أبوه؟ وقالوا على الله الكذبَ والبهتانَ، لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولدٌ إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون أن ربَّنا حيّ لا يموت، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون أن ربنا قَيِّمٌ على كل شيء يكلأهُ ويحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى! قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئًا؟ قالوا: لا! قال: أفلستم تعلمون أن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى! قال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئًا إلا ما عُلِّم؟ قالوا: لا! قال: فإنّ ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، فهل تعلمون ذلك؟ قالوا: بلى! (27) قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يُحدِث الحدَث؟ قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، (28) ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذِّي كما يغذّى الصبيّ، ثم كان يَطعم الطعام، ويشرب الشرابَ ويُحدث الحدَث؟ قالوا بلى! قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ قال: فعرفوا، ثم أبوا إلا جحودًا، فأنـزل الله عز وجل: " الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ".
* * *
القول في تأويل قوله : الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
قال أبو جعفر: اختلفت القرَأةُ في ذلك.
فقرأته قرأة الأمصار (الْحَيُّ الْقَيُّوم).
وقرأ ذلك عمر بن الخطاب وابن مسعود فيما ذكر عنهما: ( الْحَيُّ الْقَيُّومُ ).
* * *
وذكر عن علقمة بن قيس أنه كان يقرأ: ( الْحَيُّ الْقَيِّمُ ).
6545 - حدثنا بذلك أبو كريب قال، حدثنا عثام بن علي قال، حدثنا الأعمشُ، عن إبراهيم، عن أبي معمر قال، سمعت علقمة يقرأ: " الحيّ القيِّم ".
قلتُ: أنت سمعته؟ قال: لا أدري.
6546 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن علقمة مثله.
* * *
وقد روى عن علقمة خلاف ذلك، وهو ما:-
6547 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا شيبان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن علقمة أنه قرأ: " الحيّ القيَّام ".
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا في ذلك، ما جاءت به قَرَأة المسلمين نقلا مستفيضًا، عن غير تشاعُر ولا تواطؤ، وراثةً، (29) وما كان مثبتًا في مصاحفهم، وذلك قراءة من قرأ، " الحي القيُّومُ" .
* * *
القول في تأويل قوله : الْحَيُّ
اختلف أهل التأويل في معنى قوله: " الحيّ ". (30)
فقال بعضهم: معنى ذلك من الله تعالى ذكره: أنه وصف نفسه بالبقاء، ونفى الموتَ - الذي يجوز على من سواه من خلقه - عنها.
ذكر من قال ذلك:
6548 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: " الحي"، الذي لا يموت، وقد مات عيسى وصُلب في قولهم = يعني في قول الأحْبار الذين حاجُّوا رَسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى أهل نجران. (31)
6549 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: " الحي"، قال: يقول: حي لا يموتُ.
* * *
وقال آخرون: معنى " الحي"، الذي عناه الله عز وجل في هذه الآية، ووصف به نفسه: أنه المتيسِّر له تدبير كل ما أراد وشاء، لا يمتنع عليه شيء أراده، وأنه ليس كمن لا تدبير له من الآلهة والأنداد.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أن له الحياةَ الدائمة التي لم تَزَل له صفةً، ولا تزال كذلك. وقالوا، إنما وصف نفسه بالحياة، لأن له حياة = كما وصفها بالعلم، لأن لها علمًا = وبالقدرة، لأن لها قدرةٌ.
* * *
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك عندي: (32) أنه وصف نفسه بالحياة الدائمة التي لا فناءَ لها ولا انقطاع، ونفى عنها ما هو حالٌّ بكل ذي حياة من خلقه من الفناء وانقطاع الحياة عند مجيء أجله. فأخبر عبادَه أنه المستوجب على خلقه العبادة والألوهة، والحي الذي لا يموت ولا يبيد، كما يموت كل من اتخذ من دونه ربًّا، ويبيد كلُّ من ادعى من دونه إلهًا. واحتج على خلقه بأن من كان يبيد فيزول ويموت فيفنى، فلا يكون إلهًا يستوجب أن يعبد دون الإله الذي لا يبيد ولا يموت = وأنّ الإله، هو الدائم الذي لا يموت ولا يبيد ولا يفنى، وذلك الله الذي لا إله إلا هو.
* * *
القول في تأويل قوله : الْقَيُّومُ
قال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف القرأة في ذلك، والذي نختار منه، وما العلة التي من أجلها اخترنا ما اخترنا من ذلك.
* * *
فأما تأويل جميع الوجوه التي ذكرنا أنّ القرَأة قرأت بها، فمتقارب. ومعنى ذلك كله: القيّم بحفظ كل شيء ورزقه وتدبيره وتصريفه فيما شاء وأحبّ من تغيير وتبديل وزيادة ونقص، كما:-
6550 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى بن ميمون قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: " الْحَيُّ الْقَيُّومُ" ، قال: القائم على كل شيء.
6551 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6552 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: " القيوم "، قيِّم على كل شيء يكلأه ويحفظه ويرزقه.
* * *
وقال آخرون: " معنى ذلك: القيام على مكانه ". ووجَّهوه إلى القيام الدائم الذي لا زوالَ معه ولا انتقال، وأنّ الله عز وجل إنما نفى عن نفسه بوَصفها بذلك، التغيُّرَ والتنقلَ من مكان إلى مكان، وحدوثَ التبدّل الذي يحدث في الآدميين وسائر خلقه غيرهم.
ذكر من قال ذلك:
6553 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: " القيوم "، القائم على مكانه من سلطانه في خلقه لا يزول، وقد زال عيسى في قولهم = يعني في قول الأحْبار الذين حاجوا النبي صلى الله عليه وسلم من أهل نجران في عيسى = عن مكانه الذي كان به، وذهب عنه إلى غيره. (33)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب ما قاله مجاهد والربيع، وأنّ ذلك وصفٌ من الله تعالى ذكره نفسه بأنه القائم بأمر كل شيء، في رزقه والدفع عنه، وكلاءَته وتدبيره وصرفه في قدرته = من قول العرب: " فلان قائم بأمر هذه البلدة "، يعنى بذلك: المتولي تدبيرَ أمرها.
فـ" القيوم " = إذ كان ذلك معناه =" الفيعول " من قول القائل: " الله يقوم بأمر خلقه ". وأصله " القيووم "، غير أن " الواو " الأولى من " القيووم " لما سبقتها " ياء " ساكنة وهي متحركة، قلبت " ياء "، فجعلت هي و " الياء " التي قبلها " ياء " مشدّدة. لأن العرب كذلك تفعل بـ" الواو " المتحركة إذا تقدمتها " ياء " ساكنة. (34)
* * *
وأما " القيَّام "، فإن أصله " القيوام "، وهو " الفيعال " من " قام يقوم "، سبقت " الواو " المتحركة من " قيوام "" ياء " ساكنة، فجعلتا جميعًا " ياء " مشدّدة.
ولو أن " القيوم "" فَعُّول "، كان " القوُّوم "، ولكنه " الفيعول ". وكذلك " القيّام "، لو كان " الفعَّال "، لكان " القوَّام "، كما قيل: " الصوّام والقوّام "، وكما قال جل ثناؤه: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ [سورة المائدة: 8]، ولكنه " الفيعال "، فقيل: " القيام ".
* * *
وأما " القيِّم "، فهو " الفيعل " من " قام يقوم "، سبقت " الواو " المتحركة " ياء " ساكنة، فجعلتا " ياء " مشددة، كما قيل: " فلان سيدُ قومه " من " ساد يسود "، و " هذا طعام جيد " من " جاد يجود "، وما أشبه ذلك.
* * *
وإنما جاء ذلك بهذه الألفاظ، لأنه قصد به قصدَ المبالغة في المدح، فكان " القيوم " و " القيّام " و " القيم " أبلغ في المدح من " القائم "، وإنما كان عمر رضي الله عنه يختار قراءته، إن شاء الله،" القيام "، لأنّ ذلك الغالب على منطق أهل الحجاز في ذوات الثلاثة من " الياء "" الواو "، فيقولون للرجل الصوّاغ: " الصيّاغ "، ويقولون للرجل الكثير الدّوران: " الدَّيار ". (35) وقد قيل إن قول الله جل ثناؤه: لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [سورة نوح: 26] إنما هو " دوّار "،" فعَّالا " من " دار يَدُور "، ولكنها نـزلت بلغة أهل الحجاز، وأقِرّت كذلك في المصحف.
_________________
الهوامش :
(4) سياق العبارة: "أخبر عباده أن الألوهية خاصة به... احتجاجًا منه تعالى ذكره عليهم".
(5) قوله: "ومعرفًا" ، في المطبوعة والمخطوطة"ومعرف" ، والصواب نصبها ، لأن سياق الجملة"أخبر عباده أن الألوهية خاصة به... معرفًا من كان من خلقه..." ، أما الواو العاطفة في قوله: "ومعرفًا" ، فليست تعطف"معرفًا" على"احتجاجًا" فهذا غير جائز ، بل هي عاطفة على جملة"أخبر عباده..." ، كأنه قال"وأخبرهم ذلك معرفًا".
(6) السياق"ومعرفًا من كان من خلقه... مقيما على عبادة وثن. . .".
(7) الإلاهة: عبادة إله ، كما سلف في تفسيره 1: 124.
(8) في المطبوعة: "ومتخذته دون مالكه..." ، وهو لا يستقيم ، وقد أشكل عليه قوله قبل"التي كانت بنو آدم مقيمة على عبادته" ، فظن هذا معطوفا عليه ، وهو خطأ مفسد للسياق ، بل هو معطوف على قوله: "مقيما على عبادة وثن".
(9) سياق الجملة: "ومعرفًا من كان من خلقه... مقيما على عبادة وثن... أنه مقيم على ضلالة...".
(10) في المطبوعة: "ومنعزل" وهو خطأ ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، وهي فيها غير منقوطة ، والدال شبيهة بالراء!! وانعدل عن الطريق: مال عنه وانحرف. يقال: عدل عن الشيء: حاد ، وعدل عن الطريق: جار ومال واعوج سبيله.
(11) في المطبوعة والمخطوطة: "نيفًا وثلاثين آية" ، وهو خطأ صرف ، فالتنزيل بين عدده ، والأثر التالي فيه ذكر العدد صريحًا"... إلى بضع وثمانين آية".
(12) في المطبوعة: "لرسول الله..." ، وأثبت ما في المخطوطة.
(13) في ابن هشام: "وفد نصارى نجران". ثمال القوم: عمادهم وغياثهم ومطعمهم وساقيهم والقائم بأمرهم في كل ذلك.
(14) في ابن هشام: "وفد نصارى نجران". ثمال القوم: عمادهم وغياثهم ومطعمهم وساقيهم والقائم بأمرهم في كل ذلك.
(15) المدراس (بكسر الميم وسكون الدال): هو البيت الذي يدرسون فيه كتبهم ، ويعني بقوله: "صاحب مدراسهم" ، عالمهم الذي درس الكتب ، يفتيهم ويتكلم بالحجة في دينهم.
(16) في المطبوعة: "في دينه" ، وأثبت ما في المخطوطة وابن هشام. وقد أسقط الطبري من روايته هنا عن ابن إسحاق ، ما أثبته ابن هشام في السيرة 2: 222-223 ، كما سيأتي في التخريج.
(17) في ابن هشام: "فلما قدموا...".
(18) ما بين القوسين زيادة لا بد منها ، من نص ابن هشام. والحبرات (بكسر الحاء وفتح الباء) جمع حبرة (بكسر الحاء وفتح الباء): وهو ضرب موشى من برود اليمن منمر ، وهو من جياد الثياب.
(19) في المطبوعة والمخطوطة: "وخويلد بن عمرو" ، وهو خطأ ، صوابه من ابن هشام.
(20) في المطبوعة والمخطوطة: "وهو من النصرانية" ، والصواب من ابن هشام.
(21) في ابن هشام: "ولنجعله آية للناس" ، كنص الآية.
(22) في المطبوعة: "بشيء لم يصنعه..." ، وهو كلام فاسد ، والصواب من المخطوطة. وفي ابن هشام: "وهذا لم يصنعه...".
(23) في المطبوعة والمخطوطة لم يذكر"ألم" ، وأثبتها من ابن هشام.
(24) في المطبوعة: "بتبرئة نفسه" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وفي ابن هشام: "بتنزيه نفسه".
(25) في المطبوعة والمخطوطة: "وردًا عليه" بواو العطف ، وهو خطأ ، والصواب من ابن هشام.
(26) الأثر: 6543 - في ابن هشام: "ليس معه غيره شريك في أمره". والأثر رواه ابن هشام في سيرته مطولا ، وسيأتي بعد تمامه في الآثار التالية. سيرة ابن هشام 2: 222-225.
(27) في المخطوطة والدر المنثور 2: 3 ما نصه: "فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب" ، إلا أن الدر المنثور قد أسقط"قال" من هذه العبارة. أما البغوي (هامش تفسير ابن كثير) 2: 93: "فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء ، وربنا لا يأكل ولا يشرب". وتركت ما في المطبوعة على حاله مخافة أن يكون من نسخة أخرى ، كان فيها هذا.
(28) في المطبوعة والمخطوطة: "أن عيسى حملته امرأة..." والصواب"أمه" ، كما في الدر المنثور والبغوي.
(29) في المطبوعة: "تشاغر" ، بالغين ، وهو خطأ ، وانظر ما سلف: 127 تعليق: 2. وانظر ما قلته عن قوله: "وراثة" فيما سبق ص: 127 تعليق: 3.
(30) انظر تفسير: "الحي" فيما سلف 5: 386 ، 387.
(31) الأثر: 6548- سيرة ابن هشام 2: 225 ، وهو من بقية الأثر السالف: 6543.
(32) انظر تفسير"الحي" فيما سلف 5: 386 ، 387.
(33) الأثر: 6553- في المخطوطة والمطبوعة: "عمر بن إسحاق" وهو خطأ بين ، وهذا إسناد أبي جعفر إلى"محمد بن إسحاق" ، الذي يدور في تفسيره. وهذا الخبر تمام الخبرين السالفين: 6543 ، 6548 ، في سيرة ابن هشام 2: 225. وفي المطبوعة والمخطوطة خطأ آخر: "القيام على مكانه" ، مكان"القائم على مكانه" والصواب من سيرة ابن هشام.
(34) انظر ما سلف في تفسير"القيوم": 5: 388 ، 389 ، وهنا زيادة في"القيام" و"القيم" لم يذكرها هناك.
(35) انظر معاني القرآن للفراء 1: 110.

تفسير نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)

القول في تأويل قوله : نَـزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: يا محمد، إنّ ربك وربَّ عيسى وربَّ كل شيء، هو الرّبّ الذي أنـزل عليك الكتاب = يعني بـ" الكتاب "، القرآن =" بالحق " يعني: بالصّدق فيما اختلف فيه أهل التوراة والإنجيل، وفيما خالفك فيه محاجُّوك من نصارى أهل نجران وسائر أهل الشرك غيرهم =" مُصَدّقًا لما بين يديه "، يعني بذلك القرآن، أنه مصدّق لما كان قبله من كتب الله التي أنـزلها على أنبيائه ورسله، ومحقق ما جاءت به رُسل الله من عنده. (36) لأن منـزل جميع ذلك واحد، فلا يكون فيه اختلاف، ولو كان من عند غيره كان فيه اختلاف كثير.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6554 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " مصدقًا لما بين يديه ". قال: لما قبله من كتاب أو رسول.
6555 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " مصدقًا لما بين يديه "، لما قبله من كتاب أو رسول.
6556 - حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنى محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: " نـزل عليك الكتاب بالحق "، أي بالصدق فيما اختلفوا فيه. (37)
6557 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " نـزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه "، يقول: القرآن، =" مصدّقًا لما بين يديه " من الكتب التي قد خلت قبله.
6558 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: " نـزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه "، يقول: مصدّقًا لما قبله من كتاب ورسول.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: " وَأَنْـزَلَ التَّوْرَاةَ"، على موسى =" وَالإِنْجِيلَ" على عيسى =" من قبل "، يقول: من قبل الكتاب الذي نـزله عليك = ويعني بقوله: " هُدًى للناس "، بيانًا للناس من الله فيما اختلفوا فيه &; 6-162 &; من توحيد الله وتصديق رسله، ونَعْتِيك يا محمد بأنك نبيّى ورسولى، (38) وفي غير ذلك من شرائع دين الله، كما:-
6559 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " وَأَنْـزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ"، هما كتابان أنـزلهما الله، فيهما بيانٌ من الله، وعصمةٌ لمن أخذ به وصدّق به، وعمل بما فيه.
6560 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: " وَأَنْـزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ"، التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، كما أنـزل الكتب على من كان قبله. (39)
____________________
الهوامش :
(36) في المخطوطة"ومخفو ما جاءت به رسل الله" ، وهو خطأ ، والصواب ما في المطبوعة.
(37) الأثر: 6556- هو بقية الآثار السالفة ، التي آخرها آنفًا رقم: 6553.
(38) في المطبوعة: "ومفيدًا يا محمد أنك نبيي رسولي" ، وفي المخطوطة هكذا: "وحفيك يا محمد بأنك نبيي ورسولي" ، الحرف الأول حاء ، والثاني"فاء" والثالث"ياء" ، والرابع كالدال ، إلا أنه بالكاف أشبه. وقد رجحت أن تكون الكلمة: "نعتيك" ، لأن الله لما نعت محمدًا بأنه نبيه ورسوله ، اختلف الناس في صفته هذه. وكذلك فعل هذا الوفد من نصارى نجران ، كما هو واضح من حديثهم في سيرة ابن هشام. وقوله"ونعتيك" معطوف على قوله: "من توحيد الله ، وتصديق رسوله" ، أي ومن نعتيك. أما ما جاء في المطبوعة ، فهو فاسد في السياق وفي المعنى جميعًا.
(39) الأثر: 6560 - هو بقية الآثار السالفة ، التي آخرها رقم: 6556 ، وفي المطبوعة"على من كان قبلهما" ، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام.

تفسير مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ۗ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)

القول في تأويل قوله : وَأَنْـزَلَ الْفُرْقَانَ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وأنـزل الفصْل بين الحق والباطل فيما اختلفت فيه الأحزابُ وأهلُ الملل في أمر عيسى وغيره.
* * *
وقد بينا فيما مضى أنّ" الفرْقان "، إنما هو " الفعلان " من قولهم: " فرق الله بين الحق والباطل "، فصل بينهما بنصره الحقَّ على الباطل، (40) إما بالحجة البالغة، وإما بالقهر والغلبة بالأيدِ والقوة. (41)
* * *
وبما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل، غير أنّ بعضهم وجّه تأويله إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أمر عيسى = وبعضهم: إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أحكام الشرائع.
ذكر من قال: معناه: " الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى والأحزاب ":
6561 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: " وأنـزل الفرقان "، أي: الفصلَ بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره. (42)
* * *
ذكر من قال: معنى ذلك: " الفصل بين الحق والباطل في الأحكام وشرائع الإسلام ":
6562 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " وأنـزل الفرقان "، هو القرآن، أنـزله على محمد، وفرق به بين الحق والباطل، فأحلّ فيه حلاله وحرّم فيه حرامه، وشرع فيه شرائعه، وحدّ فيه حدوده، وفرض فيه فرائضَه، وبين فيه بيانه، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته.
6563 - حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: " وأنـزل الفرقان "، قال: الفرقان، القرآن، فرق بين الحق والباطل.
* * *
قال أبو جعفر: والتأويل الذي ذكرناه عن محمد بن جعفر بن الزبير في ذلك، أولى بالصحة من التأويل الذي ذكرناه عن قتادة والربيع = وأن يكون معنى " الفرقان " في هذا الموضع: فصل الله بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والذين حاجُّوه في أمر عيسى، وفي غير ذلك من أموره، بالحجة البالغة القاطعة عذرَهم وعذرَ نُظرائهم من أهل الكفر بالله.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب، لأن إخبارَ الله عن تنـزيله القرآنَ - قبل إخباره عن تنـزيله التوراة والإنجيل في هذه الآية - قد مضى بقوله: نَـزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ . ولا شك أن ذلك " الكتاب "، هو القرآن لا غيره، فلا وجه لتكريره مرة أخرى، إذ لا فائدة في تكريره، ليست في ذكره إياه وخبره عنه ابتداءً.
* * *
القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الذين جحدوا أعلام الله وأدلته على توحيده وألوهته، وأن عيسى عبدٌ له، واتخذوا المسيح إلهًا وربًّا، أو ادَّعوه لله ولدًا، لهم عذاب من الله شديدٌ يوم القيامة.
* * *
و " الذين كفروا "، هم الذين جحدوا آيات الله = و "آيات الله "، أعلامُ الله وأدلته وحججه. (43)
* * *
وهذا القول من الله عز وجل ينبئ عن معنى قوله: (44) وَأَنْـزَلَ الْفُرْقَانَ أنه معنِيٌّ به الفصل الذي هو حجة لأهل الحق على أهل الباطل. (45) لأنه عقب ذلك بقوله: " إن الذين كفروا بآيات الله "، يعني: إن الذين جحدوا ذلك الفصل والفرقانَ الذي أنـزله فرقًا بين المحق والمبطل =" لهم عذاب شديدٌ"، وعيدٌ من الله لمن عاند الحقّ بعد وضوحه له، وخالف سبيلَ الهدى بعد قيام الحجة عليه = ثم أخبرهم أنه " عزيز " في سلطانه لا يمنعه مانع ممن أراد عذابه منهم، ولا يحول بينه وبينه حائل، ولا يستطيع أن يعانده فيه أحدٌ = وأنه " ذو انتقام " ممنّ جحد حججه وأدلته بعد ثبوتها عليه، وبعد وضوحها له ومعرفته بها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6564 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: " إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيزٌ ذو انتقام "، أي: إن الله منتقم ممن كفرَ بآياته بعد علمه بها، ومعرفته بما جاء منه فيها. (46)
6565 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع،" إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيزٌ ذو انتقام "،
............................................................................
............................................................................ (47)
___________________________
الهوامش :
(40) في المطبوعة والمخطوطة: "يفصل بينهما... بالحق" مضارعًا ، والصواب أن يكون ماضيًا كما أثبته.
(41) انظر ما سلف 1: 98 ، 99 / ثم 3: 448. وفي المطبوعة"بالأيدي" بالياء في آخره ، وهو خطأ. والأيد: الشدة والقوة.
(42) الأثر: 6561 - هو بقية الآثار التي آخرها: 6560.
(43) انظر فهارس اللغة فيما سلف"كفر" و"أبى".
(44) في المخطوطة: "يعني عن معنى قوله" ، والصواب ما في المطبوعة.
(45) في المطبوعة والمخطوطة: "أنه معنى به الفصل عن الذي هو حجة..." ، وقوله: "عن" زائدة بلا ريب في الكلام من عجلة الناسخ ، فلذلك أسقطتها. والسياق بعد يدل على صواب ذلك.
(46) الأثر: 6564- هو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6561.
(47) مكان هذه النقط ما سقط من تتمة الخبر رقم: 6565 ، والأخبار بعده ، إن كانت بعده أخبار. وهكذا هو المطبوعة وسائر المخطوطات التي بين أيدينا.

تفسير إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)

القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (5)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لا يخفى عليه شيء هو في الأرض ولا شيء هو في السماء. يقول: فيكف يخفى علىّ يا محمدُ - وأنا علامُ جميع الأشياء - ما يُضَاهى به هؤلاء الذين يجادلونك في آيات الله من نصارى نجران في عيسى ابن مريم، في مقالتهم التي يقولونها فيه؟ ! كما:-
6566 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: " إنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء "، أي: قد علم ما يريدون وما يَكيدون وما يُضَاهون بقولهم في عيسى، إذ جعلوه ربًّا وإلهًا، وعندهم من علمه غيرُ ذلك، غِرّةً بالله وكفرًا به. (48)
________________________
الهوامش :
(48) الأثر: 6566 - هو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6564 ، من سيرة ابن إسحاق.

تفسير هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)

القول في تأويل قوله : هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الله الذي يصوّركم فيجعلكم صورًا أشباحًا في أرحام أمهاتكم كيف شاء وأحب، فيجعل هذا ذكرًا وهذا أنثى، وهذا أسود وهذا أحمر. يُعرّف عباده بذلك أنّ جميع من اشتملت عليه أرحامُ النساء، ممنّ صوره وخلقه كيف شاء (49) = وأنّ عيسى ابن مريم ممن صوّره في رحم أمه وخلقه فيها كيف شاء وأحبّ، وأنه لو كان إلهًا لم يكن ممن اشتملت عليه رحم أمه، لأن خلاق ما في الأرحام لا تكون الأرحامُ عليه مشتملة، وإنما تشتمل على المخلوقين، كما:-
6567 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: " هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء "، أي: (50) قد كان عيسى ممن صُوّر في الأرحام، لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه، كما صُوّر غيره من بني آدم، فكيفَ يكون إلهًا وقد كان بذلك المنـزل؟ (51)
6568 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع: " هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء "، أي: أنه صوّر عيسى في الرحم كيف شاء.
* * *
قال آخرون في ذلك ما:-
6569 - حدثنا به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس = وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قوله: " هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء "، قال: إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يومًا، ثم تكون عَلقةً أربعين يومًا، ثم تكون مُضْغة أربعين يومًا، فإذا بلغ أن يُخلق، بعث الله ملكًا يصوِّرها. فيأتي الملك بتراب بين إصبعيه، فيخلطه في المضْغة، ثم يعجنه بها، ثم يصوّرها كما يؤمر، فيقول: أذكر أو أنثى؟ أشقي أو سعيد، وما رزقه؟ وما عمره؟ وما أثره؟وما مصائبه؟ فيقول الله، ويكتب الملك. فإذا مات ذلك الجسدُ، دُفن حيث أخذ ذلك التراب. (52)
6570 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء "، قادرٌ والله ربُّنا أن يصوّر عبادَه في الأرحام كيف يشاء، من ذكر أو أنثى، أو أسود أو أحمر، تامّ خلقُه وغير تامّ.
* * *
القول في تأويل قوله : لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
قال أبو جعفر: وهذا القول تنـزيه من الله تعالى ذكره نفسَه أن يكون له في ربوبيته ندّ أو مِثل، أو أن تَجوز الألوهة لغيره = وتكذيبٌ منه للذين قالوا في عيسى ما قالوا، من وفد نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائر من كان على مثل الذي كانوا عليه من قولهم في عيسى، ولجميع من ادّعى مع الله معبودًا، أو أقرّ بربوبية غيره. (53) ثم أخبر جل ثناؤه خلقه بصفته، وعيدًا منه لمن عبد غيره، أو أشرك في عبادته أحدًا سواه، فقال: " هو العزيز " الذي لا ينصر من أرادَ الانتقام منه أحدٌ، ولا ينجيه منه وَأْلٌ ولا لَجَأٌ، (54) وذلك لعزته التي يذلُّ لها كل مخلوق، ويخضع لها كل موجود. (55) ثم أعلمهم أنه " الحكيم " في تدبيره وإعذاره إلى خلقه، ومتابعة حججه عليهم، ليهلك من هلك منهم عن بيّنة، ويحيا من حيَّ عن بينة، (56) كما:-
6571 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: ثم قال - يعني الرب عز وجل -: إنـزاهًا لنفسه، وتوحيدًا لها مما جعلوا معه: " لا إله إلا هو العزيز الحكيم "، قال: العزيز في انتصاره ممن كفر به إذا شاء، (57) والحكيم في عُذْره وحجته إلى عباده. (58)
6572 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: " لا إله إلا هو العزيز الحكيم "، يقول: عزيز في نقمته، حكيمٌ في أمره.
__________________________
الهوامش :
(49) في المطبوعة: "ممن صوره" بإسقاط الفاء من أولها. والصواب من المخطوطة.
(50) "أي" ساقطة من المخطوطة والمطبوعة ، وأثبتها من سيرة ابن هشام ، وقد مضى نهج ابن إسحاق على ذلك في الآثار السالفة.
(51) الأثر: 6567 - هو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6566 عن ابن إسحاق.
(52) الأثر: 6569- قد مضى الكلام في هذا الإسناد في رقم: 168. وحديث خلق الآدمي في بطن أمه بغير هذا اللفظ ، وبغير هذا الإسناد في مسلم 16: 189-195 ، وفي البخاري في كتاب"بدء الخلق" في باب ذكر الملائكة. وفي كتاب"الحيض" باب: مخلقة وغير مخلقة.
(53) قوله: "ولجميع من ادعى..." معطوف على قوله: "وتكذيب للذين قالوا..".
(54) "وأل" (بفتح الواو وسكون الهمزة ، على وزن سمع): هو الموئل ، وهو الملجأ الذي يفر إليه الخائف. و"لجأ" (بفتح اللام والجيم): هو الملجأ ، وهو المعقل الذي يحتمى به.
(55) انظر فهارس اللغة (عزز) فيما سلف.
(56) انظر فهارس اللغة (حكم) فيما سلف.
(57) في المطبوعة والمخطوطة: "في نصرته" وهو خطأ في المعنى ، فإن"النصرة" ، اسم من"النصر" وهو لا مكان له هنا. وأما "الانتصار" فهو: الانتقام. وانتصر منه: انتقم.
(58) في ابن هشام: "في حجته وعذره إلى عباده" ، وهي أجود لمكان"إلى" من الكلام. أعذر إليه إعذارًا وعذرًا: بلغ الغاية في إرشاده حتى لم يبق موضع للاعتذار.

تفسير هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)

هو الذي أنزل عليك الكتاب
القول في تأويل قوله تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } يعني بقوله جل ثناؤه : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } أن الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء , { هو الذي أنزل عليك الكتاب } يعني بالكتاب : القرآن . وقد أتينا على البيان فيما مضى عن السبب الذي من أجله سمي القرآن كتابا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات
وأما قوله : { منه آيات محكمات } فإنه يعني من الكتاب آيات , يعني بالآيات آيات القرآن . وأما المحكمات : فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل , وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جعلن أدلة عليه من حلال وحرام , ووعد ووعيد , وثواب وعقاب , وأمر وزجر , وخبر ومثل , وعظة وعبر , وما أشبه ذلك . ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الآيات المحكمات بأنهن هن أم الكتاب , يعني بذلك أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود , وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم , وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم . وإنما سماهن أم الكتاب , لأنهن معظم الكتاب , وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه , وكذلك تفعل العرب , تسمي الجامع معظم الشيء أما له , فتسمي راية القوم التي تجمعه في العساكر أمهم , والمدبر معظم أمر القرية والبلدة أمها . وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته . ووحد أم الكتاب , ولم يجمع فيقول : هن أمهات الكتاب , وقد قال هن لأنه أراد جميع الآيات المحكمات أم الكتاب , لا أن كل آية منهن أم الكتاب , ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهن أم الكتاب , لكان لا شك قد قيل : هن أمهات الكتاب . ونظير قول الله عز وجل : { هن أم الكتاب } على التأويل الذي قلنا في توحيد الأم وهي خبر ل " هن " قوله تعالى ذكره : { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } 23 50 ولم يقل آيتين , لأن معناه : وجعلنا جميعهما آية , إذ كان المعنى واحدا فيما حملا فيه للخلق عبرة . ولو كان مراده الخبر عن كل واحد منهما على انفراده , بأنه جعل للخلق عبرة , لقيل : وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين ; لأنه قد كان في كل واحد منهما لهم عبرة . وذلك أن مريم ولدت من غير رجل , ونطق ابنها فتكلم في المهد صبيا , فكان في كل واحد منهما للناس آية . وقد قال بعض نحويي البصرة : إنما قيل : { هن أم الكتاب } ولم يقل : " هن أمهات الكتاب " على وجه الحكاية , كما يقول الرجل : ما لي أنصار , فتقول : أنا أنصارك , أو ما لي نظير , فتقول : نحن نظيرك . قال : وهو شبيه " دعني من تمرتان " , وأنشد لرجل من فقعس : تعرضت لي بمكان حل تعرض المهرة في الطول تعرضا لم تأل عن قتلا لي حل أي يحل به , على الحكاية , لأنه كان منصوبا قبل ذلك , كما يقول : نودي : الصلاة الصلاة , يحكي قول القائل : الصلاة الصلاة ! وقال : قال بعضهم : إنما هي أن قتلا لي , ولكنه جعله " عن " لأن أن في لغته تجعل موضعها " عن " والنصب على الأمر , كأنك قلت : ضربا لزيد . وهذا قول لا معنى له , لأن كل هذه الشواهد التي استشهد بها , لا شك أنهن حكايات حالتهن بما حكى عن قول غيره وألفاظه التي نطق بهن , وأن معلوما أن الله جل ثناؤه لم يحك عن أحد قوله : أم الكتاب , فيجوز أن يقال : أخرج ذلك مخرج الحكاية عمن قال ذلك كذلك . وأما قوله { وأخر } فإنها جمع أخرى . ثم اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم يصرف " أخر " , فقال بعضهم : لم يصرف أخر من أجل أنها نعت واحدتها أخرى , كما لم تصرف جمع وكتع , لأنهن نعوت . وقال آخرون : إنما لم تصرف الأخر لزيادة الياء التي في واحدتها , وأن جمعها مبني على واحدها في ترك الصرف , قالوا : وإنما ترك صرف أخرى , كما ترك صرف حمراء وبيضاء في النكرة والمعرفة لزيادة المدة فيها والهمزة بالواو , ثم افترق جمع حمراء وأخرى , فبني جمع أخرى على واحدته , فقيل : فعل أخر , فترك صرفها كما ترك صرف أخرى , وبني جمع حمراء وبيضاء على خلاف واحدته , فصرف , فقيل حمر وبيض . فلاختلاف حالتيهما في الجمع اختلف إعرابهما عندهم في الصرف , ولاتفاق حالتيهما في الواحدة اتفقت حالتاهما فيها . وأما قوله : { متشابهات } فإن معناه : متشابهات في التلاوة , مختلفات في المعنى , كما قال جل ثناؤه : { وأتوا به متشابها } 2 25 يعني في المنظر : مختلفا في المطعم , وكما قال مخبرا عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال : { إن البقر تشابه علينا } 2 70 يعنون بذلك : تشابه علينا في الصفة , وإن اختلفت أنواعه . فتأويل الكلام إذا : إن الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء , هو الذي أنزل عليك يا محمد القرآن , منه آيات محكمات بالبيان , هن أصل الكتاب الذي عليه عمادك وعماد أمتك في الدين , وإليه مفزعك ومفزعهم فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الإسلام , وآيات أخر هن متشابهات في التلاوة , مختلفات في المعاني . وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } وما المحكم من آي الكتاب , وما المتشابه منه ؟ فقال بعضهم : المحكمات من آي القرآن : المعمول بهن , وهن الناسخات , أو المثبتات الأحكام ; والمتشابهات من آيه : المتروك العمل بهن , المنسوخات . ذكر من قال ذلك : 5163 - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا العوام , عمن حدثه , عن ابن عباس في قوله : { منه آيات محكمات } قال : هي الثلاث الآيات التي ههنا : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } 6 151 إلى ثلاث آيات , والتي في بني إسرائيل : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } 17 23 إلى آخر الآيات . 5164 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثنا معاوية بن صالح , عن على بن أبي طلحة , عن ابن عباس قوله : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب } المحكمات : ناسخه , وحلاله , وحرامه , وحدوده , وفرائضه , وما يؤمن به , ويعمل به . قال : { وأخر متشابهات } والمتشابهات : منسوخه , ومقدمه , ومؤخره , وأمثاله , وأقسامه , وما يؤمن به , ولا يعمل به . 5165 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس في قوله : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } إلى : { وأخر متشابهات } فالمحكمات التي هي أم الكتاب : الناسخ الذي يدان به ويعمل به ; والمتشابهات : هن المنسوخات التي لا يدان بهن . 5166 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي في خبر ذكره , عن أبي مالك , وعن أبي صالح , عن ابن عباس , وعن مرة الهمداني , عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب } إلى قوله : { كل من عند ربنا } أما الآيات المحكمات : فهن الناسخات التي يعمل بهن ; وأما المتشابهات : فهن المنسوخات . 5167 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب } والمحكمات : الناسخ الذي يعمل به ما أحل الله فيه حلاله وحرم فيه حرامه ; وأما المتشابهات : فالمنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن 5168 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { آيات محكمات } قال : المحكم : ما يعمل به . 5169 - حدثنا المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } قال : المحكمات : الناسخ الذي يعمل به , والمتشابهات : المنسوخ الذي لا يعمل به , ويؤمن به . 5170 - حدثني المثنى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا هشيم , عن جويبر , عن الضحاك في قوله : { آيات محكمات هن أم الكتاب } قال : الناسخات , { وأخر متشابهات } قال : ما نسخ وترك يتلى . * - حدثني ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن سلمة بن نبيط , عن الضحاك بن مزاحم , قال : المحكم ما لم ينسخ , وما تشابه منه : ما نسخ . * - حدثني يحيى بن أبي طالب , قال : أخبرنا يزيد , قال : أخبرنا جويبر , عن الضحاك في قوله : { آيات محكمات هن أم الكتاب } قال : الناسخ , { وأخر متشابهات } قال : المنسوخ . 5171 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } قال : المحكمات : الذي يعمل به . * - حدثت عن الحسين بن الفرج , قال : سمعت أبا معاذ يحدث , قال : أخبرنا عبيد بن سليمان , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { منه آيات محكمات } يعني : الناسخ الذي يعمل به , { وأخر متشابهات } يعني المنسوح , يؤمن به ولا يعمل به . * - حدثني أحمد بن حازم , قال : ثنا أبو نعيم , قال : ثنا سلمة , عن الضحاك : { منه آيات محكمات } قال : ما لم ينسخ , { وأخر متشابهات } قال : ما قد نسخ . وقال آخرون : المحكمات من آي الكتاب : ما أحكم الله فيه بيان حلاله وحرامه ; والمتشابه منها : ما أشبه بعضه بعضا في المعاني وإن اختلفت ألفاظه . ذكر من قال ذلك : 5172 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قوله : { منه آيات محكمات } ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك , فهو متشابه يصدق بعضه بعضا , وهو مثل قوله : { وما يضل به إلا الفاسقين } 2 26 ومثل قوله : { كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } 6 125 ومثل قوله : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } 47 17 * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد . مثله . وقال آخرون : المحكمات من آي الكتاب : ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد ; والمتشابه منه : ما احتمل من التأويل أوجها . ذكر من قال ذلك : 5173 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن محمد بن إسحاق , قال : ثني محمد بن جعفر بن الزبير : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات } فيهن حجة الرب , وعصمة العباد , ودفع الخصوم والباطل , ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه . وأخر متشابهة في الصدق , لهن تصريف وتحريف وتأويل , ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام , لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق . وقال آخرون : معنى المحكم : ما أحكم الله فيه من آي القرآن وقصص الأمم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم , ففصله ببيان ذلك لمحمد وأمته . والمتشابه : هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور فقصة باتفاق الألفاظ واختلافه المعاني , وقصة باختلاف الألفاظ واتفاق المعانى . ذكر من قال ذلك : 5174 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد وقرأ : { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } 11 1 قال . وذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين آية منها , وحديث نوح في أربع وعشرين آية منها . ثم قال : { تلك من أنباء الغيب } 11 49 ثم ذكر : { وإلى عاد } فقرأ حتى بلغ : { واستغفروا ربكم } 11 90 ثم مضى ثم ذكر صالحا وإبراهيم ولوطا وشعيبا , وفرغ من ذلك . وهذا يقين , ذلك يقين أحكمت آياته ثم فصلت . قال : والمتشابه ذكر موسى في أمكنة كثيرة , وهو متشابه , وهو كله معنى واحد ومتشابه : { اسلك فيها } 23 27 { احمل فيها } 11 40 { اسلك يدك } 28 32 { أدخل يدك } 27 12 { حية تسعى } 20 20 { ثعبان مبين } 7 107 قال . ثم ذكر هودا في عشر آيات منها , وصالحا في ثماني آيات منها وإبراهيم في ثماني آيات أخرى , ولوطا في ثماني آيات منها , وشعيبا في ثلاث عشرة آية , وموسى في أربع آيات , كل هذا يقضي بين الأنبياء وبين قومهم في هذه السورة , فانتهى ذلك إلى مائة آية من سورة هود , ثم قال : { ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد } 11 100 وقال في المتشابه من القرآن : من يرد الله به البلاء والضلالة , يقول : ما شأن هذا لا يكون هكذا , وما شأن هذا لا يكون هكذا ؟ وقال آخرون : بل المحكم من آي القرآن : ما عرف العلماء تأويله , وفهموا معناه وتفسيره ; والمتشابه : ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه , وذلك نحو الخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريم , ووقت طلوع الشمس من مغربها , وقيام الساعة , وفناء الدنيا , وما أشبه ذلك , فإن ذلك لا يعلمه أحد . وقالوا : إنما سمى الله من آي الكتاب المتشابه الحروف المقطعة التي في أوائل بعض سور القرآن من نحو الم , والمص , والمر , والر , وما أشبه ذلك , لأنهن متشابهات في الألفاظ , وموافقات حروف حساب الجمل . وكان قوم من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعوا أن يدركوا من قبلها معرفة مدة الإسلام وأهله , ويعلموا نهاية أكل محمد وأمته , فأكذب الله أحدوثتهم بذلك , وأعلمهم أن ما ابتغوا علمه من ذلك من قبل هذه الحروف المتشابهة لا يدركونه ولا من قبل غيرها , وأن ذلك لا يعلمه إلا الله . وهذا قول ذكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب أن هذه الآية نزلت فيه , وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره ممن قال نحو مقالته في تأويل ذلك في تفسير قوله : { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } 2 1 : 2 وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويل الآية , وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل من آي القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم , فإنما أنزله عليه بيانا له ولأمته وهدى للعالمين , وغير جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه , ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجة , ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل . فإذا كان ذلك كذلك , فكل ما فيه لخلقه إليه الحاجة , وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى , وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة , وذلك كقول الله عز وجل : { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا } 6 158 فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه عباده أنها إذا جاءت لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك , هي طلوع الشمس من مغربها . فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك هو العلم منهم بوقت نفع التوبة بصفته بغير تحديده بعد بالسنين والشهور والأيام , فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب , وأوضحه لهم على لسان رسول صلى الله عليه وسلم مفسرا . والذي لا حاجة لهم إلى علمه منه هو العلم بمقدار المدة التي بين وقت نزول هذه الآية ووقت حدوث تلك الآية , فإن ذلك مما لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا , وذلك هو العلم الذي استأثر الله جل ثناؤه به دون خلقه , فحجبه عنهم , وذلك وما أشبهه هو المعنى الذي طلبت اليهود معرفته في مدة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من قبل قوله : الم , والمص , والر , والمر , ونحو ذلك من الحروف المقطعة المتشابهات , التي أخبر الله جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله , وأنه لا يعلم تأويله إلا الله . فإذا كان المتشابه هو ما وصفنا , فكل ما عداه فمحكم , لأنه لن يخلو من أن يكون محكما بأنه بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد , وقد استغني بسماعه عن بيان يبينه , أو يكون محكما , وإن كان ذا وجوه وتأويلات وتصرف في معان كثيرة , فالدلالة على المعنى المراد منه إما من بيان الله تعالى ذكره عنه أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته , ولن يذهب علم ذلك عن علماء الأمة لما قد بينا . القول في تأويل قوله تعالى : { هن أم الكتاب } قد أتينا على البيان عن تأويل ذلك بالدلالة الشاهدة على صحة ما قلنا فيه , ونحن ذاكرو اختلاف أهل التأويل فيه . وذلك أنهم اختلفوا في تأويله , فقال بعضهم : معنى قوله : { هن أم الكتاب } هن اللائي فيهن الفرائض والحدود والأحكام , نحو قيلنا الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك : 5175 - حدثنا عمران بن موسى القزاز , قال : ثنا عبد الوارث بن سعيد , قال : ثنا إسحاق بن سويد , عن يحيى بن يعمر أنه قال في هذه الآية : { محكمات هن أم الكتاب } قال يحيى : هن اللاتي فيهن الفرائض والحدود وعماد الدين , وضرب لذلك مثلا فقال : أم القرى مكة , وأم خراسان مرو , وأم المسافرين الذين يجعلون إليه أمرهم , ويعنى بهم في سفرهم , قال : فذاك أمهم . 5176 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { هن أم الكتاب } قال : هن جماع الكتاب . وقال آخرون : بل معني بذلك فواتح السور التي منها يستخرج القرآن . ذكر من قال ذلك : 5177 - حدثنا عمران بن موسى , قال : ثنا عبد الوارث بن سعيد , قال : ثنا إسحاق بن سويد , عن أبي فاختة أنه قال في هذه الآية : { منه آيات محكمات هن أم الكتاب } قال : أم الكتاب : فواتح السور , منها يستخرج القرآن ; { الم ذلك الكتاب } 2 1 : 2 منها استخرجت البقرة , و { الم الله لا إله إلا هو } منها استخرجت آل عمران .فأما الذين في قلوبهم زيغ
القول في تأويل قوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } يعني بذلك جل ثناؤه : فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق , وانحراف عنه . يقال منه : زاغ فلان عن الحق , فهو يزيغ عنه زيغا وزيغانا وزيوغة وزيوغا , وأزاغه الله : إذا أماله , فهو يزيغه , ومنه قوله جل ثناؤه : { ربنا لا تزغ قلوبنا } لا تملها عن الحق { بعد إذ هديتنا } 3 8 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 5178 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : ثني ابن إسحاق , عن محمد بن جعفر بن الزبير : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي ميل عن الهدى . 5179 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله : { في قلوبهم زيغ } قال : شك . * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله . 5180 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } قال : من أهل الشك . 5181 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك , وعن أبي صالح , عن ابن عباس , وعن مرة الهمداني , عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } أما الزيغ : فالشك . 5182 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد , قال : { زيغ } شك . قال ابن جريج { الذين في قلوبهم زيغ } المنافقون .فيتبعون ما تشابه منه
القول في تأويل قوله تعالى : { فيتبعون ما تشابه منه } يعني بقوله جل ثناؤه : { فيتبعون ما تشابه منه } ما تشابهت ألفاظه وتصرفت معانيه بوجوه التأويلات , ليحققوا بادعائهم الأباطيل من التأويلات في ذلك ما هم عليه من الضلالة والزيغ عن محجة الحق تلبيسا منهم بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل ذلك وتصاريف معانيه . كما : 5183 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس : { فيتبعون ما تشابه منه } فيحملون المحكم على المتشابه , والمتشابه على المحكم , ويلبسون , فلبس الله عليهم . 5184 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن محمد بن جعفر بن الزبير : { فيتبعون ما تشابه منه } أي ما تحرف منه وتصرف , ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا , ليكون لهم حجة على ما قالوا وشبهة . 5185 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد في قوله : { فيتبعون ما تشابه منه } قال : الباب الذي ضلوا منه وهلكوا فيه ابتغاء تأويله . وقال آخرون في ذلك بما : 5186 - حدثني به موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي في قوله : { فيتبعون ما تشابه منه } يتبعون المنسوخ والناسخ , فيقولون : ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا مجاز هذه الآية , فتركت الأولى وعمل بهذه الأخرى ؟ هلا كان العمل بهذه الآية قبل أن تجيء الأولى التي نسخت . وما باله يعد العذاب من عمل عملا يعد به النار وفي مكان آخر من عمله فإنه لم يوجب النار . واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية , فقال بعضهم : عني به الوفد من نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم , فحاجوه بما حاجوه به , وخاصموه بأن قالوا : ألست تزعم أن عيسى روح الله وكلمته ؟ وتأولوا في ذلك ما يقولون فيه من الكفر . ذكر من قال ذلك : 5187 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع , قال : عمدوا - يعني الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى نجران - فخاصموا النبي صلى الله عليه وسلم , قالوا : ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ قال : " بلى " , قالوا : فحسبنا ! فأنزل الله عز وجل : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة } ثم إن الله جل ثناؤه أنزل : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } . .. الآية . 3 59 وقال آخرون : بل أنزلت هذه الآية في أبي ياسر بن أخطب , وأخيه حيي بن أخطب , والنفر الذين ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدر مدة أكله وأكل أمته , وأرادوا علم ذلك من قبل قوله : الم , والمص والمر , والر فقال الله جل ثناؤه فيهم : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } يعني هؤلاء اليهود الذين قلوبهم مائلة عن الهدى والحق , { فيتبعون ما تشابه منه } يعني معاني هذه الحروف المقطعة المحتملة التصريف في الوجوه المختلفة التأويلات ابتغاء الفتنة . وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى قبل في أول السورة التي تذكر فيها البقرة . وقال آخرون : بل عنى الله عز وجل بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفة لما ابتعث به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بتأويل يتأوله من بعض آي القرآن المحتملة التأويلات , وإن كان الله قد أحكم بيان ذلك , أما في كتابه وإما على لسان رسوله . ذكر من قال ذلك : 5188 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة } . وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } قال : إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري من هم . ولعمري لقد كان في أهل بدر والحديبية الذين شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان من المهاجرين والأنصار , خبر لمن استخبر , وعبرة لمن استعبر , لمن كان يعقل أو يبصر . إن الخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ كثير بالمدينة والشام والعراق وأزواجه يومئذ أحياء , والله إن خرج منهم ذكر ولا أنثى حروريا قط , ولا رضوا الذي هم عليه ولا مالئوهم فيه , بل كانوا يحدثون بعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه ونعته الذي نعتهم به , وكانوا يبغضونهم بقلوبهم ويعادونهم بألسنتهم وتشتد والله عليهم أيديهم إذا لقوهم . ولعمري لو كان أمر الخوارج هدى لاجتمع , ولكنه كان ضلالا فتفرق , وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافا كثيرا , فقد ألاصوا هذا الأمر منذ زمان طويل , فهل أفلحوا فيه يوما أو أنجحوا ؟ يا سبحان الله كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأولهم ؟ لو كانوا على هدى قد أظهره الله وأفلجه ونصره , ولكنهم كانوا على باطل أكذبه الله وأدحضه , فهم كما رأيتهم كلما خرج لهم قرن أدحض الله حجتهم , وأكذب أحدوثتهم , وأهرق دماءهم ; وإن كتموا كان قرحا في قلوبهم وغما عليهم , وإن أظهروه أهرق الله دماءهم , ذاكم والله دين سوء فاجتنبوه . والله إن اليهود لبدعة , وإن النصرانية لبدعة , وإن الحرورية لبدعة , وإن السبئية لبدعة , ما نزل بهن كتاب ولا سنهن نبي . * - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } طلب القوم التأويل فأخطئوا التأويل , وأصابوا الفتنة , فاتبعوا ما تشابه منه فهلكوا من ذلك . لعمري لقد كان في أصحاب بدر والحديبية الذين شهدوا بيعة الرضوان . وذكر نحو حديث عبد الرزاق , عن معمر , عنه . 5189 - حدثني محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم , قالا : ثنا إسماعيل بن علية , عن أيوب , عن عبد الله بن أبي مليكة , عن عائشة قالت : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } إلى قوله : { وما يذكر إلا أولوا الألباب } فقال : " فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم " . * - حدثنا ابن عبد الأعلى , قال : ثنا المعتمر بن سليمان , قال : سمعت أيوب , عن عبد الله بن أبي مليكة , عن عائشة أنها قالت : قرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } إلى : { وما يذكر إلا أولوا الألباب } . قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه " أو قال : ويتجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم قال مطر , عن أيوب أنه قال : " فلا تجالسوهم , فهم الذين عنى الله فاحذروهم " . * - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا عبد الوهاب , قال : ثنا أيوب , عن ابن أبي مليكة , عن عائشة , عن النبي صلى الله عليه وسلم , بنحو معناه . * - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن أيوب , عن ابن أبي مليكة , عن عائشة , عن النبي صلى الله عليه وسلم , نحوه . 5190 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : أخبرنا الحارث , عن أيوب , عن ابن أبي مليكة عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : قرأ رسول الله هذه الآية : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } . .. الآية كلها , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه والذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله أولئك الذين قال الله : فلا تجالسوهم " . 5191 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبو أسامة , عن يزيد بن إبراهيم , عن ابن أبي مليكة , قال : سمعت القاسم بن محمد يحدث عن عائشة , قالت : تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب } ثم قرأ إلى آخر الآيات , فقال : " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه , فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم " . 5192 - حدثنا علي بن سهل , قال : ثنا الوليد بن مسلم , عن حماد بن سلمة , عن عبد الرحمن بن القاسم , عن أبيه , عن عائشة , قالت : نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يتبعون ما تشابه منه } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد حذركم الله , فإذا رأيتموهم فاعرفوهم " . 5193 - حدثنا علي , قال : ثنا الوليد , عن نافع , عن عمر , عن عائشة , قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيتموهم فاحذروهم ! " , ثم نزع : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } " ولا يعلمون بمحكمه " . * - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب , قال : أخبرنا عمي , قال : أخبرني شبيب بن سعيد , عن روح بن القاسم , عن ابن أبي مليكة , عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } فقال : " فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم " . * - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم , قال : ثنا خالد بن نزار , عن نافع , عن ابن أبي مليكة , عن عائشة في هذه الآية : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } . .. الآية . يتبعها : يتلوها , ثم يقول : " فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فاحذروهم فهم الذين عنى الله " . * - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا يزيد بن هارون , عن حماد بن سلمة , عن ابن أبي مليكة , عن القاسم , عن عائشة , عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب } إلى آخر الآية , قال : " هم الذين سماهم الله , فإذا رأيتموهم فاحذروهم " . قال أبو جعفر : والذي يدل عليه ظاهر هذه الآية أنها نزلت في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمتشابه ما أنزل إليه من كتاب الله إما في أمر عيسى , وإما في مدة أكله وأكل أمته , وهو بأن تكون في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمتشابهه في مدته ومدة أمته أشبه , لأن قوله : { وما يعلم تأويله إلا الله } دال على أن ذلك إخبار عن المدة التي أرادوا علمها من قبل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله . فأما أمر عيسى وأسبابه , فقد أعلم الله ذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته وبينه لهم , فمعلوم أنه لم يعن إلا ما كان خفيا عن الآحاد .ابتغاء الفتنة
القول في تأويل قوله تعالى : { ابتغاء الفتنة } اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك , فقال بعضهم : معنى ذلك : ابتغاء الشرك . ذكر من قال ذلك : 5194 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { ابتغاء الفتنة } قال : إرادة الشرك . 5195 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله : { ابتغاء الفتنة } يعني الشرك . وقال آخرون : معنى ذلك ابتغاء الشبهات . ذكر من قال ذلك : 5196 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { ابتغاء الفتنة } قال : الشبهات بها أهلكوا . * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قوله : { ابتغاء الفتنة } الشبهات , قال : هلكوا به . * - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثنا حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد : { ابتغاء الفتنة } قال : الشبهات , قال : والشبهات ما أهلكوا به . 5197 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن محمد بن جعفر بن الزبير : { ابتغاء الفتنة } أي اللبس . وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : إرادة الشبهات واللبس . فمعنى الكلام إذا : فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق وحيف عنه , فيتبعون من آي الكتاب ما تشابهت ألفاظه , واحتمل صرفه في وجوه التأويلات , باحتماله المعاني المختلفة إرادة اللبس على نفسه وعلى غيره , احتجاجا به على باطله الذي مال إليه قلبه دون الحق الذي أبانه الله فأوضحه بالمحكمات من آي كتابه . وهذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا أنها نزلت فيه من أهل الشرك , فإنه معني بها كل مبتدع في دين الله بدعة , فمال قلبه إليها , تأويلا منه لبعض متشابه آي القرآن , ثم حاج به وجادل به أهل الحق , وعدل عن الواضح من أدلة آيه المحكمات إرادة منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين , وطلبا لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك كائنا من كان , وأي أصناف البدعة كان من أهل النصرانية كان أو اليهودية أو المجوسية , أو كان سبئيا , أو حروريا , أو قدريا , أو جهميا , كالذي قال صلى الله عليه وسلم : " فإذا رأيتم الذين يجادلون به فهم الذين عنى الله فاحذروهم " . وكما : 5198 - حدثني يونس , قال : أخبرنا سفيان , عن معمر , عن ابن طاوس , عن أبيه , عن ابن عباس : وذكر عنده الخوارج , وما يلقون عند الفرار , فقال : يؤمنون بمحكمه , ويهلكون عند متشابهه . وقرأ ابن عباس : { وما يعلم تأويله إلا الله } . .. الآية . وإنما قلنا : القول الذي ذكرنا أنه أولى التأويلين بقوله : { ابتغاء الفتنة } لأن الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا أهل شرك , وإنما أرادوا بطلب تأويل ما طلبوا تأويله اللبس على المسلمين والاحتجاج به عليهم ليصدوهم عما هم عليه من الحق , فلا معنى لأن يقال : فعلوا ذلك إرادة الشرك , وهم قد كانوا مشركين .وابتغاء تأويله
القول في تأويل قوله تعالى : { وابتغاء تأويله } اختلف أهل التأويل في معنى التأويل الذي عنى الله جل ثناؤه بقوله : { وابتغاء تأويله } فقال بعضهم معنى ذلك : الأجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من انقضاء مدة أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر أمته من قبل الحروف المقطعة من حساب الجمل " الم " , و " المص " , و " الر " , و " المر " وما أشبه ذلك من الآجال . ذكر من قال ذلك : 5199 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس : أما قوله : { وما يعلم تأويله إلا الله } يعني تأويله يوم القيامة إلا الله . وقال آخرون : بل معنى ذلك . عواقب القرآن . وقالوا : إنما أرادوا أن يعلموا متى يجيء ناسخ الأحكام التي كان الله جل ثناؤه شرعها لأهل الإسلام قبل مجيئه , فنسخ ما قد كان شرعه قبل ذلك . ذكر من قال ذلك : 5200 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { وابتغاء تأويله } أرادوا أن يعلموا تأويل القرآن , وهو عواقبه , قال الله : { وما يعلم تأويله إلا الله } , وتأويله عواقبه , متى يأتي الناسخ منه فينسخ المنسوخ . وقال آخرون : معنى ذلك : وابتغاء تأويل ما تشابه من آي القرآن يتأولونه - إذ كان ذا وجوه وتصاريف في التأويلات - على ما في قلوبهم من الزيغ , وما ركبوه من الضلالة . ذكر من قال ذلك : 5201 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وابتغاء تأويله } وذلك على ما ركبوا من الضلالة في قولهم , خلقنا وقضينا . والقول الذي قاله ابن عباس من أن ابتغاء التأويل الذي طلبه القوم من المتشابه هو معرفة انقضاء المدة , ووقت قيام الساعة , والذي ذكرنا عن السدي من أنهم طلبوا وأرادوا معرفة وقت هو جاء قبل مجيئه أولى بالصواب , وإن كان السدي قد أغفل معنى ذلك من وجه صرفه إلى حصره على أن معناه : إن القوم طلبوا معرفة وقت مجيء الناسخ لما قد أحكم قبل ذلك . وإنما قلنا : إن طلب القوم معرفة الوقت الذي هو جاء قبل مجيئه المحجوب علمه عنهم وعن غيرهم بمتشابه آي القرآن , أولى بتأويل قوله : { وابتغاء تأويله } لما قد دللنا عليه قبل من إخبار الله جل ثناؤه أن ذلك التأويل لا يعلمه إلا الله , ولا شك أن معنى قوله : " قضينا " و " فعلنا " , قد علم تأويله كثير من جهلة أهل الشرك , فضلا عن أهل الإيمان وأهل الرسوخ في العلم منهم .وما يعلم تأويله إلا الله
القول في تأويل قوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله } يعني جل ثناؤه بذلك : وما يعلم وقت قيام الساعة وانقضاء مدة أكل محمد وأمته وما هو كائن , إلا الله , دون من سواه من البشر الذين أملوا إدراك علم ذلك من قبل الحساب والتنجيم والكهانة . وأما الراسخون في العلم , فيقولون : آمنا به كل من عند ربنا , لا يعلمون ذلك , ولكن فضل علمهم في ذلك على غيرهم العلم بأن الله هو العالم بذلك دون من سواه من خلقه . واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك , وهل الراسخون معطوف على اسم الله , بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه , أو هم مستأنف ذكرهم بمعنى الخبر عنهم أنهم يقولون آمنا بالمتشابه , وصدقنا أن علم ذلك لا يعلمه إلا الله ؟ فقال بعضهم : معنى ذلك : وما يعلم تأويل ذلك إلا الله وحده منفردا بعلمه . وأما الراسخون في العلم فإنهم ابتدئ الخبر عنهم بأنهم يقولون : آمنا بالمتشابه والمحكم , وأن جميع ذلك من عند الله . ذكر من قال ذلك : 5202 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم , قال : ثنا خالد بن نزار , عن نافع , عن ابن أبي مليكة , عن عائشة , قوله : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به } قالت : كان من رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه , ولم يعلموا تأويله . 5203 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن ابن طاوس , عن أبيه , قال : كان ابن عباس يقول : { وما يعلم تأويله إلا الله } يقول الراسخون : آمنا به . 5204 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : أخبرني ابن أبي الزناد , قال : قال هشام بن عروة : كان أبي يقول في هذه الآية : { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله , ولكنهم يقولون : { آمنا به كل من عند ربنا } 5205 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا يحيى بن واضح , قال : ثنا عبيد الله , عن أبي نهيك الأسدي قوله : { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } فيقول : إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا . 5206 - حدثنا المثنى , قال : ثنا ابن دكين , قال : ثنا عمرو بن عثمان بن عبد الله بن موهب , قال : سمعت عمر بن عبد العزيز يقول : { الراسخون في العلم } انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا : { آمنا به كل من عند ربنا } 5207 - حدثني يونس , قال : أخبرنا أشهب , عن مالك في قوله : { وما يعلم تأويله إلا الله } قال : ثم ابتدأ فقال : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } وليس يعلمون تأويله . وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم , وهم مع علمهم بذلك ورسوخهم في العلم { يقولون آمنا به كل من عند ربنا } ذكر من قال ذلك : 5208 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , عن ابن عباس أنه قال : أنا ممن يعلم تأويله . 5209 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد . { والراسخون في العلم } يعلمون تأويله ويقولون آمنا به . حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { والراسخون في العلم } يعلمون تأويله ويقولون آمنا به . 5210 - حدثت عن عمار بن الحسن , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : { والراسخون في العلم } يعلمون تأويله ويقولون آمنا به . 5211 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وما يعلم تأويله } الذي أراد ما أراد إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به . ( فكيف يختلف وهو قول واحد من رب واحد ؟ ) ثم ردوا تأويل المتشابهة على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد , فاتسق بقولهم الكتاب , وصدق بعضه بعضا , فنفذت به الحجة , وظهر به العذر , وزاح به الباطل , ودمغ به الكفر . فمن قال القول الأول في ذلك , وقال : إن الراسخين لا يعلمون تأويل ذلك , وإنما أخبر الله عنهم بإيمانهم وتصديقهم بأنه من عند الله , فإنه يرفع " الراسخين في العلم " بالابتداء في قول البصريين , ويجعل خبره " يقولون آمنا به " . وأما في قول بعض الكوفيين فبالعائد من ذكرهم في " يقولون " , وفي قول بعضهم بجملة الخبر عنهم , وهي ويقولون " . ومن قال القول الثاني , وزعم أن الراسخين يعلمون تأويله عطف بالراسخين على اسم الله فرفعهم بالعطف عليه . والصواب عندنا في ذلك , أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم وهو " يقولون " , لما قد بينا قبل من أنهم لا يعلمون تأويل المتشابه الذي ذكره الله عز وجل في هذه الآية , وهو فيما بلغني مع ذلك في قراءة أبي : " ويقول الراسخون في العلم " كما ذكرناه عن ابن عباس أنه كان يقرؤه ; وفي قراءة عبد الله : إن تأويله إلا عند الله " والراسخون في العلم يقولون " . وأما معنى التأويل في كلام العرب : فإنه التفسير والمرجع والمصير , وقد أنشد بعض الرواة بيت الأعشى : على أنها كانت تأول حبها تأول ربعي السقاب فأصحبا وأصله من آل الشيء إلى كذا , إذا صار إليه ورجع يئول أولا وأولته أنا : صيرته إليه . وقد قيل : إن قوله : { وأحسن تأويلا } 4 59 أي جزاء , وذلك أن الجزاء هو الذي آل إليه أمر القوم وصار إليه . ويعني بقوله : وتأول حبها " : تفسير حبها ومرجعه , وإنما يريد بذلك أن حبها كان صغيرا في قلبه , فآل من الصغر إلى العظم , فلم يزل ينبت حتى أصحب فصار قديما كالسقب الصغير الذي لم يزل يشب حتى أصحب فصار كبيرا مثل أمه . وقد ينشد هذا البيت : على أنها كانت توابع حبها توالى ربعي السقاب فأصحباوالراسخون في العلم يقولون آمنا به
القول في تأويل قوله تعالى : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به } يعني بالراسخين في العلم : العلماء الذين قد أتقنوا علمهم ووعوه فحفظوه حفظا لا يدخلهم في معرفتهم وعلمهم بما علموه شك ولا لبس , وأصل ذلك من رسوخ الشيء في الشيء , وهو ثبوته وولوجه فيه , يقال منه : رسخ الإيمان في قلب فلان فهو يرسخ رسخا ورسوخا . وقد روي في نعتهم خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم , وهو ما : 5212 - حدثنا موسى بن سهل الرملي , قال : ثنا محمد بن عبد الله , قال : ثنا فياض بن محمد الرقي , قال : ثنا عبد الله بن يزيد بن آدم , عن أبي الدرداء وأبي أمامة , قالا : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الراسخ في العلم ؟ قال : " من برت يمينه , وصدق لسانه , واستقام له قلبا , وعف بطنه , فذلك الراسخ في العلم " . 5213 - حدثني المثنى وأحمد بن الحسن الترمذي , قالا : ثنا نعيم بن حماد , قال : ثنا فياض الرقي , قال : ثنا عبد الله بن يزيد الأودي - قال : وكان أدرك أصحاب رسول الله - قال : حدثنا أنس بن مالك وأبو أمامة وأبو الدرداء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم , فقال : " من برت يمينه , وصدق لسانه , واستقام به قلبه , وعف بطنه وفرجه ; فذلك الراسخ في العلم " . وقد قال جماعة من أهل التأويل : إنما سمى الله عز وجل هؤلاء القوم الراسخين في العلم بقولهم : { آمنا به كل من عند ربنا } . ذكر من قال ذلك : 5214 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن سفيان , عن جابر , عن مجاهد , عن ابن عباس , قال : { الراسخون في العلم يقولون آمنا به } قال : الراسخون الذين يقولون آمنا به كل من عند ربنا . 5215 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { والراسخون في العلم } هم المؤمنون , فإنهم { يقولون آمنا به } بناسخه ومنسوخه { كل من عند ربنا } 5216 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , قال : قال ابن جريج : قال ابن عباس : قال عبد الله بن سلام : { الراسخون في العلم } وعلمهم قولهم . قال ابن جريج : { الراسخون في العلم يقولون آمنا به } وهم الذين يقولون : { ربنا لا تزغ قلوبنا } ويقولون : { ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه } . .. الآية . وأما تأويل قوله : { يقولون آمنا به } فإنه يعني : أن الراسخين في العلم يقولون صدقنا بما تشابه من آي الكتاب , وأنه حق , وإن لم نعلم تأويله . وقد : 5217 - حدثني أحمد بن حازم , قال : ثنا أبو نعيم , قال : ثنا سلمة بن نبيط , عن الضحاك : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به } قال : المحكم والمتشابه .كل من عند ربنا
القول في تأويل قوله تعالى : { كل من عند ربنا } يعني بقوله جل ثناؤه : { كل من عند ربنا } كل المحكم من الكتاب والمتشابه منه من عند ربنا , وهو تنزيله ووحيه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كما : 5218 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن سفيان , عن جابر , عن مجاهد , عن ابن عباس في قوله : { كل من عند ربنا } قال : يعني ما نسخ منه , وما لم ينسخ . 5219 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } قالوا : { كل من عند ربنا } آمنوا بمتشابهه , وعملوا بمحكمه . 5220 - حدثت عن عمار بن الحسن , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله : { كل من عند ربنا } يقولون : المحكم والمتشابه من عند ربنا . 5221 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } يؤمن بالمحكم ويدين به , ويؤمن بالمتشابه ولا يدين به , وهو من عند الله كله . 5222 - حدثنا يحيى بن أبي طالب , قال : ثنا يزيد , قال : أخبرنا جويبر , عن الضحاك في قوله : { والراسخون في العلم } يعملون به , يقولون : نعمل بالمحكم ونؤمن به , ونؤمن بالمتشابه ولا نعمل به , وكل من عند ربنا . واختلف أهل العربية في حكم " كل " إذا أضمر فيها . فقال بعض نحويي البصريين : إذا جاز حذف المراد الذي كان معها الذي " الكل " إليه مضاف في هذا الموضع لأنها اسم , كما قال : { إنا كل فيها } 40 48 بمعنى : إنا كلنا فيها , قال : ولا يكون " كل " مضمرا فيها وهي صفة , لا يقال : مررت بالقوم كل , وإنما يكون فيها مضمر إذا جعلتها اسما لو كان إنا كلا فيها على الصفة , لم يجز , لأن الإضمار فيها ضعيف لا يتمكن في كل مكان . وكان بعض نحويي الكوفيين يرى الإضمار فيها وهي صفة أو اسم سواء , لأنه غير جائز أن يحذف ما بعدها عنده إلا وهي كافية بنفسها عما كانت تضاف إليه من المضمر , وغير جائز أن تكون كافية منه في حال , ولا تكون كافية في أخرى , وقال : سبيل الكل والبعض في الدلالة على ما بعدهما بأنفسهما وكفايتهما منه , بمعنى واحد في كل حال , صفة كانت أو اسما , وهذا القول الثاني أولى بالقياس , لأنها إذا كانت كافية بنفسها مما حذف منها في حال لدلالتها عليه , فالحكم فيها أنها كلما وجدت دالة على ما بعدها , فهي كافية منه .وما يذكر إلا أولو الألباب
القول في تأويل قوله تعالى : { وما يذكر إلا أولوا الألباب } يعني بذلك جل ثناؤه : وما يتذكر ويتعظ وينزجر عن أن يقول في متشابه آي كتاب الله ما لا علم له به إلا أولو العقول والنهى . وقد : 5223 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وما يذكر إلا أولوا الألباب } يقول : وما يتذكر في مثل هذا , يعني في رد تأويل المتشابه إلى ما قد عرف من تأويل المحكم حتى يتسقا على معنى واحد , إلا أولو الألباب .