تفسير سورة النساء الآية 90 تفسير الطبري

تفسير سورة النساء الآية 90 بواسطة تفسير الطبري هذا ما سنستعرض بإذن الله سويًا ،هي سورة مدنية وجاء ترتيبها 4 في المصحف الكريم وعدد آياتها 176.

تفسير آيات سورة النساء

من
إلى
المفسرون

تفسير إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)

القول في تأويل قوله : إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق "، فإن تولىَّ هؤلاء المنافقون الذين اختلفتم فيهم عن الإيمان بالله ورسوله، وأبوا الهجرة فلم يهاجروا في سبيل الله، فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، سوى من وَصل منهم إلى قوم بينكم وبينهم مُوادعة وعهد وميثاق، (35) فدخلوا فيهم، وصاروا منهم، ورضوا بحكمهم، فإن لمن وصل إليهم فدخل فيهم من أهل الشرك راضيًا بحكمهم في حقن دمائهم بدخوله فيهم: أن لا تسبى نساؤهم وذراريهم، ولا تغنم أموالهم، كما: -
10069- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق "، يقول: إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم، فإن أحدٌ منهم دخل في قوم بينكم وبينهم ميثاق، فأجروا عليه مثل ما تجرُون على أهل الذمة.
10070- حدثني يونس، عن ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق "، يصلون إلى هؤلاء الذين بينكم وبينهم ميثاق من القوم، لهم من الأمان مثل ما لهؤلاء.
10071- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج، عن عكرمة قوله: " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق "، قال نـزلت في هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن جعشم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف. (36)
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية، (37) أن معنى قوله: " إلا الذين يصلون إلى قوم "، إلا الذين يتَّصلون في أنسابهم لقوم بينكم وبينهم ميثاق، من قولهم: " اتّصل الرجل "، بمعنى: انتمى وانتسب، كما قال الأعشى في صفة امرأة انتسبت إلى قوم:
إذَا اتَّصَلَـتْ قَـالَتْ: أَبَكْـرَ بنَ وَائِلٍ!
وَبَكْــرٌ سَـبَتْهَا وَالأنُـوفُ رَوَاغِـمُ! (38)
يعني بقوله: " اتصلت "، انتسبت.
* * *
قال أبو جعفر: ولا وجه لهذا التأويل في هذا الموضع، لأن الانتساب إلى قوم من أهل الموادعة أو العهد، لو كان يوجب للمنتسبين إليهم ما لهم، إذا لم يكن لهم من العهد والأمان ما لهم، لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيقاتل قريشًا وهم أنسباءُ السابقين الأوَّلين. ولأهل الإيمان من الحق بإيمانهم، أكثر مما لأهل العهد بعهدهم. وفي قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي قريش= بتركها الدخول فيما دخل فيه أهل الإيمان منهم، مع قرب أنسابهم من أنساب المؤمنين منهم - الدليلُ الواضح أنّ انتساب من لا عهد له إلى ذي العهد منهم، لم يكن موجبا له من العهد ما لذي العهد من انتسابه.
فإن ظن ذو غفلة أن قتال النبيّ صلى الله عليه وسلم من قاتل من أنسباء المؤمنين من مشركي قريش، إنما كان بعد ما نُسخ قوله: " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق "، فإن أهل التأويل أجمعوا على أن ناسخ ذلك " براءة "، و " براءة " نـزلت بعد فتح مكة ودخول قريش في الإسلام. (39)
* * *
القول في تأويل قوله : أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " أو جاءوكم حَصِرَت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم "، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ = إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ = أو: إلا الذين جاءوكم منهم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم.
ويعني بقوله: " حصرت صدورهم "، ضاقت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو أن يقاتلوا قومهم.
والعرب تقول لكل من ضاقت نفسه عن شيء من فعل أو كلام: " قد حَصِرَ"، ومنه " الحَصَرُ" في القراءة. (40)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10072- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " أو جاءوكم حصرت صدورهم "، يقول: رجعوا فدخلوا فيكم=" حصرت صدورهم "، يقول: ضاقت صدورهم=" أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ".
* * *
وفي قوله: " أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم "، متروكٌ، ترك ذكره لدلالة الكلام عليه. وذلك أن معناه: أو جاءوكم قد حصرت صدورهم، فترك ذكر " قد "، لأن من شأن العرب فعل مثل ذلك: تقول: " أتاني فلان ذَهَب عقله "، بمعنى: قد ذهب عقله. ومسموع منهم: " أصبحت نظرتُ إلى ذات التَّنانير "، بمعنى: قد نظرت. (41) ولإضمار " قد " مع الماضي، جاز وضع الماضي من الأفعال في موضع الحال، لأن " قد " إذا دخلت معه أدْنته من الحال، وأشبهت الأسماء. (42)
* * *
وعلى هذه القراءة= أعني" حَصِرَت "، قراءة القرأة في جميع الأمصار، وبها يقرأ لإجماع الحجة عليها.
* * *
وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: ( أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَةً صُدُورُهُمْ )، نصبًا، (43) وهي صحيحة في العربية فصيحة، غير أنه غير جائزة القراءة بها عندي، لشذوذها وخروجها عن قراءة قرأة الإسلام.
* * *
القول في تأويل قوله : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا (90)
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: " ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم "، ولو شاء الله لسلّط هؤلاء الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق فيدخلون في جوارهم وذمتهم، والذين يجيئونكم قد حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم= عليكم، (44) أيها المؤمنون، فقاتلوكم مع أعدائكم من المشركين، ولكن الله تعالى ذكره كفَّهم عنكم. يقول جل ثناؤه: فأطيعوا الذي أنعم عليكم بكفِّهم عنكم مع سائر ما أنعم به عليكم، فيما أمركم به من الكفِّ عنهم إذا وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو جاؤوكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم. ثم قال جل ثناؤه: " فإن اعتزلوكم "، يقول: فإن اعتزلكم هؤلاء الذين أمرتكم بالكف عن قتالهم من المنافقين، بدخولهم في أهل عهدكم، أو مصيرهم إليكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم=" فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السَّلَم "، يقول: وصالحوكم.
* * *
و " السَّلَم "، هو الاستسلام. (45) وإنما هذا مثلٌ، كما يقول الرجل للرجل: " أعطيتك قِيادي"، و " ألقيت إليك خِطَامي"، إذا استسلم له وانقاد لأمره. فكذلك قوله: " وألقوا إليكم السلم "، إنما هو: ألقوا إليكم قيادَهم واستسلموا لكم، صلحًا منهم لكم وسَلَمًا. ومن " السَّلم " قول الطرمَّاح:
وَذَاكَ أَنَّ تَمِيمًــا غَــادَرَتْ سَــلَمًا
لِلأسْــدِ كُـلَّ حَصَـانٍ وَعْثَـةِ اللِّبَـدِ (46)
يعني بقوله: " سلمًا "، استسلامًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10073- حدثني المثنى قال، حدثنا ابن أبي جعفر: عن أبيه، عن الربيع: " فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم "، قال: الصلح.
* * *
وأما قوله: " فما جعل الله لكم عليهم سبيلا "، فإنه يقول: إذا استسلم لكم هؤلاء المنافقون الذين وصف صفتهم، صلحًا منهم لكم=" فما جعل الله لكم عليهم سبيلا "، أي: فلم يجعل الله لكم على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم طريقًا إلى قتل أو سباء أو غنيمة، بإباحةٍ منه ذلك لكم ولا إذْنٍ، فلا تعرَّضوا لهم في ذلك= إلا سبيل خير
* * *
ثم نسخ الله جميع حكم هذه الآية والتي بعدها بقوله تعالى ذكره:
فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ إلى قوله: فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة التوبة: 5].
ذكر من قال في ذلك مثل الذي قلنا:
10074- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن قالا قال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ إلى قوله: وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا وقال في" الممتحنة ": لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، وقال فيها: إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ إلى فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة الممتحنة: 8 ، 9]. فنسخ هؤلاء الآيات الأربعة في شأن المشركين فقال: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ [سورة التوبة: 1، 2]. فجعل لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض، وأبطل ما كان قبل ذلك. وقال في التي تليها: فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ، ثم نسخ واستثنى فقال: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ إلى قوله: ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [سورة التوبة: 5 ، 6].
10075- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " فإن اعتزلوكم "، قال: نسختها: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .
10076- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى قال، سمعت قتادة: يقول في قوله: إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ إلى قوله: " فما جعل الله لكم عليهم سبيلا "، ثم نسخ ذلك بعد في براءة، وأمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقاتل المشركين بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ .
10077- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال، قال ابن زيد في قوله: إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ، الآية، قال: نسخ هذا كله أجمع، نسخه الجهاد، ضرب لهم أجل أربعة أشهر: إما أن يسلموا، وإما أن يكون الجهاد.