تفسير سورة القمر تفسير الطبري

تفسير سورة القمر بواسطة تفسير الطبري هذا ما سنستعرض بإذن الله سويًا ،هي سورة مكية وجاء ترتيبها 54 في المصحف الكريم وعدد آياتها 55.

تفسير آيات سورة القمر

من
إلى
المفسرون

تفسير اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)

القول في تأويل قوله تعالى : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
يعني تعالى ذكره بقوله ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) : دنت الساعة التي تقوم فيها القيامة, وقوله ( اقْتَرَبَتِ ) افتعلت من القُرب, وهذا من الله تعالى ذكره إنذار لعباده بدنوّ القيامة, وقرب فناء الدنيا, وأمر لهم بالاستعداد لأهوال القيامة قبل هجومها عليهم, وهم عنها في غفلة ساهون.
وقوله ( وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) يقول جلّ ثناؤه: وانفلق القمر, وكان ذلك فيما ذُكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة, قبل هجرته إلى المدينة، وذلك أن كفار أهل مكة سألوه آية, فآراهم صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر, آية حجة على صدق قوله, وحقيقة نبوّته; فلما أراهم أعرضوا وكذبوا, وقالوا: هذا سحر مستمرّ, سحرنا محمد, فقال الله جلّ ثناؤه ( وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) .
وينحو الذي قلنا في ذلك جاءت الآثار, وقال به أهل التأويل.
* ذكر الآثار المروية بذلك, والأخيار عمن قاله من أهل التأويل:
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة " أن أنس بن مالك حدثهم أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية, فأراهم انشقاق القمر مرّتين " .
حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: ثنا شعبة, قال: سمعت قتادة يحدّث, عن أنس, قال: انشق القمر فرقتين.
حدثنا ابن المثنى والحسن بن أبي يحيى المقدسي, قالا ثنا أبو داود, قال: ثنا شعبة, عن قتادة, قال: سمعت أنسا يقول: " انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
حدثني يعقوب الدورقيّ, قال: ثنا أبو داود, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قال: سمعت أنسا يقول: فذكر مثله.
حدثنا عليّ بن سهل, قال: ثنا حجاج بن محمد, عن شعبة, عن قتادة, عن أنس, قال: " انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّتين ".
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع, قال: ثنا بشر بن المفضل, قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن أنس بن مالك " أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية, فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما ".
حدثني أبو السائب, قال: ثنا معاوية, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن أبى معمر, عن عبد الله, قال: " انشقّ القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى حتى ذهبت منه فرقة خلف الجبل, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشْهَدُوا ".
حدثني إسحاق بن أبي إسرائيل, قال: ثنا النضر بن شميل المازنيّ, قال: أخبرنا شعبة, عن سليمان, قال: سمعت إبراهيم, عن أبي معمر, عن عبد الله, قال " تفلَّق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين, فكانت فرقة على الجبل, وفرقة من ورائه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهُم اشْهَدْ " .
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل, قال: ثنا النضر, قال: أخبرنا شعبة, عن سليمان, عن مجاهد, عن ابن عمر, مثل حديث إبراهيم في القمر.
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي, قال: ثني عمي يحيى بن عيسى, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن رجل , عن عبد الله, قال " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى, فانشقّ القمر, فأخذت فرقة خلق الجبل, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشْهَدُوا ".
حدثني محمد بن عمارة, قال: ثنا عمرو بن حماد, قال: ثنا أسباط, عن سماك, عن إبراهيم, عن الأسود, عن عبد الله, قال: " رأيت الجبل من فرج القمر حين انشقّ".
حدثنا الحسن بن يحيى المقدسي, قال: ثنا يحيى بن حماد, قال: ثنا أبو عوانة, عن المُغيرة, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله, قال: " انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كَبْشة سحركم فسلوا السُّفَّار, فسألوهم, فقالوا: نعم قد رأيناه, فأنـزل الله تبارك وتعالى : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) .
حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم, عن عبد الله قال: " قد مضى انشقاق القمر ".
حدثني أبو السائب, قال: ثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق, قال: عبد الله " خمس قد مضين: الدخان, واللزام, والبطشة, والقمر, والروم ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا ابن عُلَية, قال: أخبرنا أيوب, عن محمد, قال: نُبِّئت أن ابن مسعود كان يقول: قد انشقَ القمر.
قال: أخبرنا ابن علية, قال: أخبرنا عطاء بن السائب, عن أبي عبد الرحمن السُلَميّ, قال: " نـزلنا المدائن, فكنا منها على فرسخ, فجاءت الجمعة, فحضر أبي, وحضرت معه, فخطبنا حُذيفة, فقال: ألا إن الله يقول ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) ألا وإن الساعة قد اقتربت, ألا وإن القمر قد انشقّ, ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق, ألا وإن اليوم المِضمار, وغدا السباق, فقلت لأبي: أتستبق الناس غدا؟ فقال: يا بنيّ إنك لجاهل, إنما هو السباق بالأعمال, ثم جاءت الجمعة الأخرى, فحضرنا, فخطب حُذيفة, فقال: ألا إن الله تبارك وتعالى يقول ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) ألا وإن الساعة قد أقتربت, ألا وإن القمر قد انشقّ, ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق, ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق, ألا وإن الغاية النار, والسابق من سَبق إلى الجنة ".
حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: ثنا شعبة, عن عطاء بن السائب, عن أبي عبد الرحمن قال: " كنت مع أبي بالمدائن, قال: فخطب أميرهم, وكان عطاء يروي أنه حُذيفة, فقال في هذه الآية : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) قد اقتربت الساعة وانشقّ القمر, قد اقتربت الساعة وانشق القمر, اليوم المضمار, وغدا السباق, والسابق من سبق إلى الجنة, والغاية النار; قال: فقلت لأبي: غدا السباق, قال: فأخبره ".
حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا ابن فضيل, عن حصين, عن محمد بن جبير بن مطعم, عن أبيه, قال: " انشقّ القمر, ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ".
حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا مهران, عن خارجة, عن الحصين بن عبد الرحمن, عن ابن جُبَير, عن أبيه ( وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) قال: انشقّ ونحن بمكة.
حدثنا محمد بن عسكر, قال: ثنا عثمان بن صالح وعبد الله بن عبد الحكم, قالا ثنا بكر بن مضر, عن جعفر بن ربيعة, عن عِرَاك, (5) عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة, عن ابن عباس, قال: " انشقّ القمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
حدثنا نصر بن عليّ, قال: ثنا عبد الأعلى, قال: ثنا داود بن أبي هند, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قال: " انشقّ القمر قبل الهجرة, أو قال: قد مضى ذاك ".
حدثنا إسحاق بن شاهين, قال: ثنا خالد بن عبد الله, عن داود, عن علي, عن ابن عباس بنحوه.
حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا عبد الأعلى, قال: ثنا داود, عن علي, عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) قال: ذاك قد مضى كان قبل الهجرة, انشقّ حتى رأوا شِقيه.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) ... إلى قوله ( سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) قال: قد مضى, كان قد انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة, فأعرض المشركون وقالوا: سحر مستمرّ.
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) قال: رأوه منشقا.
حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن منصور وليث عن مجاهد ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) قال: انفلق القمر فلقتين, فثبتت فلقة, وذهبت فلقة من وراء الجبل, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " اشْهَدُوا ".
حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا مهران, عن أبي سنان, عن ليث, عن مجاهد " انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فصار فرقتين, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبى بكر: اشْهَدْ يا أبا بَكْرٍ فقال المشركون: سحر القمر حتى انشقّ".
حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا مهران, عن أبي سنان, قال: قدم رجل المدائن فقام فقال: إن الله تبارك وتعالى يقول ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) وإن القمر قد انشقّ, وقد آذنت الدنيا بفراق, اليوم المِضْمار, وغدا السباق, والسابق. من سبق إلى الجنة, والغاية النار.
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) يحدث الله في خلقه ما يشاء.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, عن أنس, قال: سأل أهل مكة النبيّ صلى الله عليه وسلم آية, فانشقّ القمر بمكة مرّتين, فقال ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) .
حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) قد مضى, كان الشقّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة, فأعرض عنه المشركون, وقالوا: سِحْر مستمرّ.
حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا سلمة, عن عمرو, عن مغيرة, عن إبراهيم, قال: مضى انشقاق القمر بمكة.
----------------------
الهوامش :
(5) ضبطه في التاج بوزن كتاب .

تفسير وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)

وقوله ( وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ) يقول تعالى ذكره. وإن ير المشركون علامة تدلهم على حقيقة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم , ودلالة تدلهم على صدقة فيما جاءهم به عن ربهم, يعرضوا عنها, فيولوا مكذّبين بها مُنكرين أن يكون حقا يقينا, ويقولوا تكذيبا منهم بها, وإنكارا لها أن تكون حقا: هذا سحر سَحَرَنا به محمد حين خَيَّلَ إلينا أنا نرى القمر منفلقا باثنين بسحره, وهو سحر مستمرّ, يعني يقول: سحر مستمرّ ذاهب, من قولهم: قد مرّ هذا السحر إذا ذهب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) قال: ذاهب.
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) قال: إذا رأى أهل الضلالة آية من آيات الله قالوا: إنما هذا عمل السحر, يوشك هذا أن يستمرّ ويذهب.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) يقول: ذاهب.
حدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) كما يقول أهل الشرك إذا كُسف القمر يقولون: هذا عمل السحرة.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, قوله ( سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) قال: حين انشق القمر بفلقتين: فلقة من وراء الجبل, وذهبت فلقة أخرى, فقال المشركون حين رأوا ذلك: سحر مستمرّ.
وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يوجه قوله ( مُسْتَمِرٌّ ) إلى أنه مستفعل من الإمرار من قولهم: قد مرّ الجبل: إذا صلب وقوي واشتدّ وأمررته أنا: إذا فتلته فتلا شديدا, ويقول: معنى قوله ( وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) : سحر شديد.

تفسير وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)

القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
يقول تعالى ذكره: وكذّب هؤلاء المشركون من قريش بآيات الله بعد ما أتتهم حقيقتها, وعاينوا الدلالة على صحتها برؤيتهم القمر منفلقا فلقتين ( وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ) يقول: وآثروا اتباع ما دعتهم إليه أهواء أنفسهم من تكذيب ذلك على التصديق بما قد أيقنوا صحته من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم , وحقيقة ما جاءهم به من ربهم.
وقوله ( وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) يقول تعالى ذكره: وكلّ أمر من خير أو شرّ مستقر قراره, ومتناه نهايته, فالخير مستقرّ بأهله في الجنة, والشرّ مستقرّ بأهله في النار.
كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) : أي بأهل الخير الخير, وبأهل الشرّ الشرّ.

تفسير وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)

وقوله ( وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) يقول تعالى ذكره: ولقد جاء هؤلاء المشركين من قريش الذين كذّبوا بآيات الله, واتبعوا أهواءهم من الأخبار عن الأمم السالفة, الذين كانوا من تكذيب رسل الله على مثل الذي هم عليه, وأحلّ الله بهم من عقوباته ما قصّ في هذا القرآن ما فيه لهم مزدجر, يعني: ما يردعهم, ويزجرهم عما هم عليه مقيمون, من التكذيب بآيات الله, وهو مُفْتَعَلٌ من الزَّجْر.
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( مُزْدَجَرٌ ) قال: مُنتهى.
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) : أي هذا القرآن.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان ( وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) قال: المزدَجَر: المنتهى.

تفسير حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ۖ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)

وقوله ( حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ) يعني بالحكمة البالغة: هذا القرآن, ورُفعت الحكمةُ ردّا على " ما " التي في قوله ( وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) .
وتأويل الكلام: ولقد جاءهم من الأنباء النبأ الذي فيه مزدَجَر, حكمة بالغة. ولو رُفعت الحكمة على الاستئناف كان جائزا, فيكون معنى الكلام حينئذ: ولقد جاءهم من الأنباء النبأ الذي فيه مزدجر, ذلك حكمة بالغة, أو هو حكمة بالغة فتكون الحكمة كالتفسير لها.
وقوله ( فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ) وفي " ما " التي في قوله ( فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ) وجهان: أحدهما أن تكون بمعنى الجحد, فيكون إذا وجهت إلى ذلك معنى الكلام, فليست تغني عنهم النذر ولا ينتفعون بها, لإعراضهم عنها وتكذيبهم بها. والآخر: أن تكون بمعنى: أنى, فيكون معنى الكلام إذا وجهت إلى ذلك: فأي شيء تُغني عنهم النُّذر. والنُّذر: جمع نذير, كالجُدُد: جمع جديد, والحُصُر: جمع حَصير.

تفسير فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ۘ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُكُرٍ (6)

القول في تأويل قوله تعالى : فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)
يعني تعالى ذكره بقوله ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) : فأعرض يا محمد عن هؤلاء المشركين من قومك, الذين إن يروا آية يعرضوا ويقولوا: سِحْر مستمرّ, فإنهم يوم يدعو داعي الله إلى موقف القيامة, وذلك هو الشيء النُّكُر.

تفسير خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)

القول في تأويل قوله تعالى : خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)
( خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ ) يقول: ذليلة أبصارهم خاشعة, لا ضرر بها( يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ ) وهي جمع جدث, وهي القبور, وإنما وصف جلّ ثناؤه بالخشوع الأبصار دون سائر أجسامهم, والمراد به جميع أجسامهم, لأن أثر ذلة كل ذليل, وعزّة كل عزيز, تتبين في ناظريه دون سائر جسده, فلذلك خصّ الأبصار بوصفها بالخشوع.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله ( خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ ): أي ذليلة أبصارهم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض المكيين الكوفيين ( خُشَّعًا ) بضم الخاء وتشديد الشين, بمعنى خاشع; وقرأه عامة قرّاء الكوفة وبعض البصريين ( خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ ) بالألف على التوحيد اعتبارا بقراءة عبد الله, وذلك أن ذلك في قراءة عبد الله ( خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ), وألحقوه وهو بلفظ الاسم في التوحيد, إذ كان صفة بحكم فَعَلَ ويَفْعَل في التوحيد إذا تقدّم الأسماء, كما قال الشاعر:
وشَـــبابٍ حَسَـــنٍ أوْجُـــهُهمْ
مِــنْ إيــادِ بـنِ نـزارِ بْـنِ مَعَـد (1)
فوحد حَسَنا وهو صفة للأوجه, وهي جمع; وكما قال الآخر:
يَـرْمي الفِجـاجَ بِهـا الرُّكبانَ مُعْترِضًا
أعْنـاقَ بُزَّلِهـا مُرْخَـى لَهـا الجُـدُلُ (2)
فوحد معترضا, وهي من صفة الأعناق, والجمع والتأنيث فيه جائزان على ما بيَّنا.
وقوله ( كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ) يقول تعالى ذكره: يخرجون من قبورهم كأنهم في انتشارهم وسعيهم إلى موقف الحساب جراد منتَشر.
----------------------
الهوامش :
(1) البيت للحارس بن دوس الإيادي ، ويروى لأبي داود الإيادي ، ( هامش القرطبي 17 : 129 ) والبيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 317 ) قال : إذا تقدم الفعل قبل اسم مؤنث ، وهو له ، أو قبل جمع مؤنث مثل الأنصار والأعمار وما أشبهها جاز تأنيث الفعل وتذكيره وجمعه ، وقد أتى بذلك في هذا الحرف ، فقرأه ابن عباس : " خاشعا أبصارهم " حدثني بذلك هشيم وأبو معاوية ، عن وائل بن داود ، عن مسلم بن يسار ، عن ابن عباس ، أنه قراه " خاشعا " . قال : وحدثني هشيم ، عن عوف الأعرابي ، عن الحسن وأبي رجاء العطاردي : أن أحدهما قال : " خاشعا " والآخر : " خشعا " قال الفراء : وهي في قراءة عبد الله ( ابن مسعود ) : " خاشعة أبصارهم " . وقرأ الناس بعد : " خشعا أبصارهم " ، وقد قال الشاعر : " وشباب حسن ... " البيت .
(2) وهذا الشاهد كذلك من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 317 ) على أنه إذا تقدم الفعل وشبهه قبل اسم مؤنث ( جمع تكسير ) مثل الأنصار والأعمار وما أشبهها جاز تأنيث الفعل وتذكيره وجمعه . وقال الفراء تعليقًا على هذا البيت : الجدل : جمع الجديل : وهو الزمام . فلو قال معترضات أو معترضة ، لكان صوابا ، ومرخاة ومرخيات أ . هـ .