القول في تأويل قوله تعالى : إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)
يعني تعالى ذكره بقوله: ( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ) : إذا نـزلت صيحة القيامة، وذلك حين يُنفخ في الصور لقيام الساعة.
كما حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ) يعني: الصيحة.
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: ( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ) الواقعة والطامة والصاخة، ونحو هذا من أسماء القيامة، عظَّمه الله، وحذره عباده.
وقوله: ( لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ) يقول تعالى: ليس لوقعة الواقعة تكذيب ولا مردودية ولا مثنوية، والكاذبة في هذا الموضع مصدر، مثل العاقبة والعافية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ) : أي ليس لها مثنوية، ولا رجعة، ولا ارتداد.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر; عن قتادة، في قوله: ( لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ) قال: مثنوية.
وقوله: ( خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ) يقول تعالى ذكره: الواقعة حينئذ خافضة، أقواما كانوا في الدنيا، أعزّاء إلى نار الله.
وقوله: ( رَافِعَةٌ ) يقول: رفعت أقواما كانوا في الدنيا وُضعَاء إلى رحمة الله وجنته. وقيل: خفضت فأسمعت الأدنى، ورفعت فأسمعت الأقصى.
* ذكر من قال في ذلك ما قلنا:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد الله، يعني العَتَكِيّ، عن عثمان بن عبد الله بن سُراقة ( خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ) قال: الساعة خفضت أعداء الله إلى النار، ورفعت أولياء الله إلى الجنة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ) يقول: تخللت كلّ سهل وجبل، حتى أسمعت القريب والبعيد، ثم رفعت أقواما في كرامة الله، وخفضت أقواما في عذاب الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ) وقال: أسمعت القريب والبعيد، خافضة أقواما إلى عذاب الله، ورافعة أقواما إلى كرامة الله.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، قوله: ( خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ) قال: خفضت وأسمعت الأدنى، ورفعت فأسمعت الأقصى؛ قال: فكان القريب والبعيد من الله سواء.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ) قال: سمَّعت القريب والبعيد.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ) خفضت فأسمعت الأدنى ورفعت فأسمعت الأقصى، فكان فيها القريب والبعيد سواء.
وقوله: ( إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا ) يقول تعالى ذكره: إذا زلزلت الأرض فحرّكت تحريكا من قولهم السهم يرتجّ في الغرض، بمعنى: يهتزّ ويضطرب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا ) يقول: زلزلها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قول الله ( إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا ) قال: زلزلت.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا ) يقول: زلزلت زلزلة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا ) قال: زلزلت زلزالا.
وقوله: ( وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ) يقول تعالى ذكره: فتتت الجبال فتا، فصارت كالدقيق المبسوس، وهو المبلول، كما قال جلّ ثناؤه: وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا والبسيسة عند العرب: الدقيق والسويق تلتّ وتتخذ زادا.
وذُكر عن لصّ من غطفان أنه أراد أن يخبز، فخاف أن يعجل عن الخبز قبل الدقيق وأكله عجينا، وقال:
لا تَخْــبِزَا خَــبْزًا وبُسَّــا بَسَّــا
مَلْســـا بِــذَوْدِ الحَلَسِــيّ مَلْســا (2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ) يقول: فتتت فتا.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ) قال: فتتت.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: ( وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ) قال: كما يبس السويق.
حدثني أحمد بن عمرو البصري، قال: ثنا حفص بن عمر العدني، عن الحكم بن أبان، عن عكرِمة ( وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ) قال: فُتَّتْ فتا.
حدثني إسماعيل بن موسى ابن بنت السديّ، قال: أخبرنا بشر بن الحكم الأحمسيّ، عن سعيد بن الصلت، عن إسماعيل السديّ وأبي صالح ( وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ) قال: فُتِّتت فتا.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد ( وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ) قال: كما يبس السويق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول الله: ( وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ) قال: صارت كثيبا مهيلا كما قال الله.
حدثنا ابن حُميَد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: ( وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ) قال: فُتتت فتا.
------------------------
الهوامش:
(2) هذا الشاهد من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 174 - ب ) عند قوله تعالى : ( وبست الجبال بسا ) قال : مجازها كمجاز السويق المبسوس، أي المبلول والعجين . قال لص من غطفان وأراد أن يخبز، فخاف أن يعجل عن الخبز قبل الدقيق، فأكله عجينا، فقال: " لا تخبزا خبزا وبسا بسا ". ا هـ . وفي ( اللسان : ملس ) : والملس: السوق الشديد. وفي بس: وقال ثعلب : معنى: وبست الجبال بسا : خلطت بالتراب . وقال بعضهم :فتت، وقال بعضهم: سويت . ا هـ. ولم يورد أبو عبيدة البيت الثاني وأنشد صاحب اللسان البيت الأول، وجاء بعده ببيت آخر، وهو: * ولا تطيــلا بمنــاخ حيســا *
وأنشد في "ملس" البيت الثاني قال: والملس : السوق الشديد . يقال ملست بالإِبل أملس ( من باب قتل ) ملسا: إذا سقتها سوقا في خفية، قال الراجز : * ملســا يـذود الحلسـي ملسـا *
وقال ابن الأعرابي الملس : ضرب من السير الرقيق . والملس : اللين من كل شيء . ا هـ.
وأنشده الفراء في معاني القرآن البيتين كرواية المؤلف. وقال ( الورقة 322 ): " وبست الجبال بسا " : صارت كالدقيق،وذلك قوله " وسيرت الجبال " . وسمعت العرب تنشد : "لا تخبزا خبزا ... البيتين " . والبسيسة عندهم : الدقيق أو السويق، يليت ويتخذ زادا . ا هـ. وفي النوادر لأبي زيد ( بيروت 11 ) :
مَلْســا بِــذَوْدِ الحُمَسِــيَّ مَلْســا
مِــنْ غَنْـوَةٍ حـتى كَـانَّ الشَّمْسـا
*بالأُفُقِ الغَــرْبِيّ تُطْـلَى وَرْسَـا *
قال أبو زيد : الملس : السير الشديد . قال أبو حاتم : وأقول أنا لا عن أبي زيد: الملس السير السريع السهل . وقوله " تطلى ورسا قد اصفرت للغروب " . ا هـ .
وقوله: ( فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ) اختلف أهل التأويل في معنى الهباء، فقال بعضهم: هو شعاع الشمس، الذي يدخل من الكوة كهيئة الغبار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: ( فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ) يقول: شعاع الشمس.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد ( هَبَاءً مُنْبَثًّا ) قال: شعاع الشمس حين يدخل من الكوّة.
قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: ( فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ) قال: شعاع الشمس يدخل من الكوّة، وليس بشيء.
وقال آخرون: هو رهج الدوابّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن عليّ رضي الله عنه قال: رهج الدوابّ.
وقال آخرون: هو ما تطاير من شرر النار الذي لا عين له.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ) قال: الهباء: الذي يطير من النار إذا اضطرمت، يطير منه الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئا.
وقال آخرون: هو يبيس الشجر الذي تذروه الرياح.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: ( فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ) كيبيس الشجر، تذروه الرياح يمينا وشمالا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: ( هَبَاءً مُنْبَثًّا ) يقول: الهباء: ما تذروه الريح من حطام الشجر.
وقد بيَّنا معنى الهباء في غير هذا الموضع بشواهده، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وأما قوله: ( مُنْبَثًّا ) فإنه يعني متفرّقا.
القول في تأويل قوله تعالى : وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً (7)
يقول تعالى ذكره: وكنتم أيها الناس أنواعا ثلاثة وضروبا.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً ) قال: منازل الناس يوم القيامة.