سورة النور وهي مدنية .
يقول تعالى : هذه ( سورة أنزلناها ) فيه تنبيه على الاعتناء بها ولا ينفي ما عداها .
( وفرضناها ) قال مجاهد وقتادة : أي بينا الحلال والحرام والأمر والنهي ، والحدود .
وقال البخاري : ومن قرأ " فرضناها " يقول : فرضنا عليكم وعلى من بعدكم .
( وأنزلنا فيها آيات بينات ) أي : مفسرات واضحات ، ( لعلكم تذكرون ) .
ثم قال تعالى : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) هذه الآية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد ، وللعلماء فيه تفصيل ونزاع; فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكرا ، وهو الذي لم يتزوج ، أو محصنا ، وهو الذي قد وطئ في نكاح صحيح ، وهو حر بالغ عاقل . فأما إذا كان بكرا لم يتزوج ، فإن حده مائة جلدة كما في الآية ويزاد على ذلك أن يغرب عاما [ عن بلده ] عند جمهور العلماء ، خلافا لأبي حنيفة ، رحمه الله; فإن عنده أن التغريب إلى رأي الإمام ، إن شاء غرب وإن شاء لم يغرب .
وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين ، من رواية الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني ، في الأعرابيين اللذين أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما : يا رسول الله ، إن ابني كان عسيفا - يعني أجيرا - على هذا فزنى بامرأته ، فافتديت [ ابني [ منه بمائة شاة ووليدة ، فسألت أهل العلم ، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، لأقضين بينكما بكتاب الله : الوليدة والغنم رد عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام . واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " . فغدا عليها فاعترفت ، فرجمها .
ففي هذا دلالة على تغريب الزاني مع جلد مائة إذا كان بكرا لم يتزوج ، فأما إن كان محصنا فإنه يرجم ، كما قال الإمام مالك :
حدثني ابن شهاب ، أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، أن ابن عباس أخبره أن عمر ، رضي الله عنه ، قام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فإن الله بعث محمدا بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها ووعيناها ، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل : لا نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله ، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى ، إذا أحصن ، من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة ، أو الحبل ، أو الاعتراف .
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولا وهذا قطعة منه ، فيها مقصودنا هاهنا .
وروى الإمام أحمد ، عن هشيم ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس : حدثني عبد الرحمن بن عوف; أن عمر بن الخطاب خطب الناس فسمعته يقول : ألا وإن أناسا يقولون : ما بال الرجم؟ في كتاب الله الجلد . وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده . ولولا أن يقول قائلون - أو يتكلم متكلمون - أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه لأثبتها كما نزلت .
وأخرجه النسائي ، من حديث عبيد الله بن عبد الله ، به .
وقد روى أحمد أيضا ، عن هشيم ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس قال : خطب عمر بن الخطاب فذكر الرجم فقال : لا تخدعن عنه; فإنه حد من حدود الله ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده ، ولولا أن يقول قائلون : زاد عمر في كتاب الله ما ليس فيه ، لكتبت في ناحية من المصحف : وشهد عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وفلان وفلان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده . ألا وإنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم وبالدجال وبالشفاعة وبعذاب القبر ، وبقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا .
وروى أحمد أيضا ، عن يحيى القطان ، عن يحيى الأنصاري ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب : إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم .
الحديث رواه الترمذي ، من حديث سعيد ، عن عمر ، وقال : صحيح .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا ابن عون ، عن محمد - هو ابن سيرين - قال : نبئت عن كثير بن الصلت قال : كنا عند مروان وفينا زيد ، فقال زيد : كنا نقرأ : " والشيخ والشيخة فارجموهما البتة " . قال مروان : ألا كتبتها في المصحف؟ قال : ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب ، فقال : أنا أشفيكم من ذلك . قال : قلنا : فكيف؟ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فذكر كذا وكذا ، وذكر الرجم ، فقال : يا رسول الله ، أكتبني آية الرجم : قال : " لا أستطيع الآن " . هذا أو نحو ذلك .
وقد رواه النسائي ، عن محمد بن المثنى ، عن غندر ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن يونس بن جبير ، عن كثير بن الصلت ، عن زيد بن ثابت ، به .
وهذه طرق كلها متعددة ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخ تلاوتها ، وبقي حكمها معمولا به ، ولله الحمد .
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم هذه المرأة ، وهي زوجة الرجل الذي استأجر الأجير لما زنت مع الأجير . ورجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية . وكل هؤلاء لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جلدهم قبل الرجم . وإنما وردت الأحاديث الصحاح المتعددة الطرق والألفاظ ، بالاقتصار على رجمهم ، وليس فيها ذكر الجلد; ولهذا كان هذا مذهب جمهور العلماء ، وإليه ذهب أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، رحمهم الله . وذهب الإمام أحمد ، رحمه الله ، إلى أنه يجب أن يجمع على الزاني المحصن بين الجلد للآية والرجم للسنة ، كما روي ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه لما أتي بشراحة وكانت قد زنت وهي محصنة ، فجلدها يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة ، ثم قال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد روى الإمام أحمد ومسلم ، وأهل السنن الأربعة ، من حديث قتادة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر ، جلد مائة وتغريب سنة والثيب بالثيب ، جلد مائة والرجم " .
وقوله : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) أي : في حكم الله . لا ترجموهما وترأفوا بهما في شرع الله ، وليس المنهي عنه الرأفة الطبيعية [ ألا تكون حاصلة ] على ترك الحد ، [ وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد ] فلا يجوز ذلك .
قال مجاهد : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) قال : إقامة الحدود إذا رفعت إلى السلطان ، فتقام ولا تعطل . وكذا روي عن سعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح . وقد جاء في الحديث : " تعافوا الحدود فيما بينكم ، فما بلغني من حد فقد وجب " . وفي الحديث الآخر : " لحد يقام في الأرض ، خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحا " .
وقيل : المراد : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) فلا تقيموا الحد كما ينبغي ، من شدة الضرب الزاجر عن المأثم ، وليس المراد الضرب المبرح .
قال عامر الشعبي : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) قال : رحمة في شدة الضرب . وقال عطاء : ضرب ليس بالمبرح . وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن حماد بن أبي سليمان : يجلد القاذف وعليه ثيابه ، والزاني تخلع ثيابه ، ثم تلا ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) فقلت : هذا في الحكم؟ قال : هذا في الحكم والجلد - يعني في إقامة الحد ، وفي شدة الضرب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي حدثنا وكيع ، عن نافع ، [ عن ] ابن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر : أن جارية لابن عمر زنت ، فضرب رجليها - قال نافع : أراه قال : وظهرها - قال : قلت : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) قال : يا بني ، ورأيتني أخذتني بها رأفة؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها ، ولا أن أجعل جلدها في رأسها ، وقد أوجعت حيث ضربت .
وقوله : ( إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) أي : فافعلوا ذلك : أقيموا الحدود على من زنى ، وشددوا عليه الضرب ، ولكن ليس مبرحا; ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك . وقد جاء في المسند عن بعض الصحابة أنه قال : يا رسول الله ، إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها ، فقال : " ولك في ذلك أجر " .
وقوله : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) : هذا فيه تنكيل للزانيين إذا جلدا بحضرة الناس ، فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما ، وأنجع في ردعهما ، فإن في ذلك تقريعا وتوبيخا وفضيحة إذا كان الناس حضورا .
قال الحسن البصري في قوله : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) يعني : علانية .
ثم قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) الطائفة : الرجل فما فوقه .
وقال مجاهد : الطائفة : رجل إلى الألف . وكذا قال عكرمة; ولهذا قال أحمد : إن الطائفة تصدق على واحد .
وقال عطاء بن أبي رباح : اثنان . وبه قال إسحاق بن راهويه . وكذا قال سعيد بن جبير : ( طائفة من المؤمنين ) قال : يعني : رجلين فصاعدا .
وقال الزهري : ثلاثة نفر فصاعدا .
وقال عبد الرزاق : حدثني ابن وهب ، عن الإمام مالك في قوله : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) قال : الطائفة : أربعة نفر فصاعدا; لأنه لا يكون شهادة في الزنى دون أربعة شهداء فصاعدا . وبه قال الشافعي .
وقال ربيعة : خمسة . وقال الحسن البصري : عشرة . وقال قتادة : أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ، أي : نفر من المسلمين; ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا بقية قال : سمعت نصر بن علقمة في قوله : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) قال : ليس ذلك للفضيحة ، إنما ذلك ليدعى الله تعالى لهما بالتوبة والرحمة .
هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة . أي : لا يطاوعه على مراده من الزنى إلا زانية عاصية أو مشركة ، لا ترى حرمة ذلك ، وكذلك : ( الزانية لا ينكحها إلا زان ) أي : عاص بزناه ، ( أو مشرك ) لا يعتقد تحريمه .
قال سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ) قال : ليس هذا بالنكاح ، إنما هو الجماع ، لا يزني بها إلا زان أو مشرك .
وهذا إسناد صحيح عنه ، وقد روي عنه من غير وجه أيضا . وقد روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعروة بن الزبير ، والضحاك ، ومكحول ، ومقاتل بن حيان ، وغير واحد ، نحو ذلك .
وقوله تعالى : ( وحرم ذلك على المؤمنين ) أي : تعاطيه والتزويج بالبغايا ، أو تزويج العفائف بالفجار من الرجال .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا قيس ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وحرم ذلك على المؤمنين ) قال : حرم الله الزنى على المؤمنين .
وقال قتادة ، ومقاتل بن حيان : حرم الله على المؤمنين نكاح البغايا ، وتقدم في ذلك فقال : ( وحرم ذلك على المؤمنين )
وهذه الآية كقوله تعالى : ( محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان ) [ النساء : 25 ] وقوله ( محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ) الآية [ المائدة : 5 ] ومن هاهنا ذهب الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك حتى تستتاب ، فإن تابت صح العقد عليها وإلا فلا وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح ، حتى يتوب توبة صحيحة; لقوله تعالى : ( وحرم ذلك على المؤمنين )
وقال الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا معتمر بن سليمان قال : قال أبي : حدثنا الحضرمي ، عن القاسم بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنهما ، أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها : " أم مهزول " كانت تسافح ، وتشترط له أن تنفق عليه - قال : فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو : ذكر له أمرها - قال : فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ) .
وقال النسائي : أخبرنا عمرو بن علي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن الحضرمي ، عن القاسم بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو قال : كانت امرأة يقال لها : " أم مهزول " وكانت تسافح ، فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها ، فأنزل الله عز وجل : ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ) .
[ و ] قال الترمذي : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا روح بن عبادة بن عبيد الله بن الأخنس ، أخبرني عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده قال : كان رجل يقال له " مرثد بن أبي مرثد " وكان رجلا يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة . قال : وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها " عناق " ، وكانت صديقة له ، وأنه واعد رجلا من أسارى مكة يحمله . قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة ، قال : فجاءت " عناق " فأبصرت سواد ظلي تحت الحائط ، فلما انتهت إلي عرفتني ، فقالت : مرثد؟ فقلت : مرثد فقالت : مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة . قال : فقلت يا عناق ، حرم الله الزنى . فقالت يا أهل الخيام ، هذا الرجل يحمل أسراكم . قال : فتبعني ثمانية ودخلت الحندمة فانتهيت إلى غار - أو كهف فدخلت فيه فجاءوا حتى قاموا على رأسي فبالوا ، فظل بولهم على رأسي ، فأعماهم الله عني - قال : ثم رجعوا ، فرجعت إلى صاحبي فحملته ، وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت إلى الإذخر ، ففككت عنه أكبله ، فجعلت أحمله ويعينني ، حتى أتيت به المدينة ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، أنكح عناقا؟ أنكح عناقا؟ - مرتين - فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يرد علي شيئا ، حتى نزلت ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا مرثد ، ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة [ والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ] ) فلا تنكحها " ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وقد رواه أبو داود والنسائي ، في كتاب النكاح من سننهما من حديث عبيد الله بن الأخنس ، به .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسدد أبو الحسن ، حدثنا عبد الوارث ، عن حبيب المعلم ، حدثني عمرو بن شعيب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله " .
وهكذا أخرجه أبو داود في سننه ، عن مسدد وأبي معمر - عبد الله بن عمرو - كلاهما ، عن عبد الوارث ، به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن أخيه عمر بن محمد ، عن عبد الله بن يسار - مولى ابن عمر - قال : أشهد لسمعت سالما يقول : قال عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا يدخلون الجنة ، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، والمرأة المترجلة - المتشبهة بالرجال - والديوث . وثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، ومدمن الخمر ، والمنان بما أعطى " .
ورواه النسائي ، عن عمرو بن علي الفلاس ، عن يزيد بن زريع ، عن عمر بن محمد العمري ، عن عبد الله بن يسار ، به .
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا الوليد بن كثير ، عن قطن بن وهب ، عن عويمر بن الأجدع ، عمن حدثه ، عن سالم بن عبد الله بن عمر قال : حدثني عبد الله بن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة حرم الله عليهم الجنة : مدمن الخمر ، والعاق ، والديوث الذي يقر في أهله الخبث " .
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا شعبة ، حدثني رجل - من آل سهل بن حنيف - ، عن محمد بن عمار ، عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة ديوث " .
يستشهد به لما قبله من الأحاديث .
وقال ابن ماجه : حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا سلام بن سوار ، حدثنا كثير بن سليم ، عن الضحاك بن مزاحم : سمعت أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ يقول ] " من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا ، فليتزوج الحرائر " .
في إسناده ضعف .
قال الإمام أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري في كتاب " الصحاح في اللغة : " الديوث القنذع وهو الذي لا غيرة له .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الرحمن النسائي في كتاب " النكاح " من سننه : أخبرنا محمد بن إسماعيل بن علية ، عن يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة وغيره ، عن هارون بن رئاب ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير - وعبد الكريم ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن ابن عباس - عبد الكريم رفعه إلى ابن عباس ، وهارون لم يرفعه - قالا جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن عندي امرأة [ هي ] من أحب الناس إلي وهي لا تمنع يد لامس قال : " طلقها " . قال : لا صبر لي عنها قال : " استمتع بها " ، ثم قال النسائي : هذا الحديث غير ثابت ، وعبد الكريم ليس بالقوي ، وهارون أثبت منه ، وقد أرسل الحديث وهو ثقة ، وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم . .
قلت : وهو ابن أبي المخارق البصري المؤدب تابعي ضعيف الحديث ، وقد خالفه هارون بن رئاب ، وهو تابعي ثقة من رجال مسلم ، فحديثه المرسل أولى كما قال النسائي . لكن قد رواه النسائي في كتاب " الطلاق " ، عن إسحاق بن راهويه ، عن النضر بن شميل عن حماد بن سلمة ، عن هارون بن رئاب ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن ابن عباس مسندا ، فذكره بهذا الإسناد ، رجاله على شرط مسلم ، إلا أن النسائي بعد روايته له قال : " وهذا خطأ ، والصواب مرسل " ورواه غير النضر على الصواب .
وقد رواه النسائي أيضا وأبو داود ، عن الحسين بن حريث ، أخبرنا الفضل بن موسى ، أخبرنا الحسين بن واقد ، عن عمارة بن أبي حفصة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره . وهذا إسناد جيد .
وقد اختلف الناس في هذا الحديث ما بين مضعف له ، كما تقدم ، عن النسائي ، وكما قال الإمام أحمد : هو حديث منكر .
وقال ابن قتيبة : إنما أراد أنها سخية لا تمنع سائلا . وحكاه النسائي في سننه ، عن بعضهم فقال : وقيل : " سخية تعطي " ، ورد هذا بأنه لو كان المراد لقال : لا ترد يد ملتمس .
وقيل : المراد أن سجيتها لا ترد يد لامس ، لا أن المراد أن هذا واقع منها ، وأنها تفعل الفاحشة; فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها . فإن زوجها - والحالة هذه - يكون ديوثا ، وقد تقدم الوعيد على ذلك . ولكن لما كانت سجيتها هكذا ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها لو خلا بها أحد ، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقها . فلما ذكر أنه يحبها أباح له البقاء معها; لأن محبته لها محققة ، ووقوع الفاحشة منها متوهم فلا يصار إلى الضرر العاجل لتوهم الآجل ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
قالوا : فأما إذا حصلت توبة فإنه يحل التزويج ، كما قال الإمام أبو محمد بن أبي حاتم رحمه الله :
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد ، عن ابن أبي ذئب ، قال : سمعت [ شعبة ] - مولى ابن عباس ، رضي الله عنه - قال : سمعت ابن عباس وسأله رجل قال : إني كنت ألم بامرأة آتي منها ما حرم الله عز وجل علي ، فرزق الله عز وجل من ذلك توبة ، فأردت أن أتزوجها ، فقال أناس : إن الزاني لا ينكح إلا زانية . فقال ابن عباس : ليس هذا في هذا ، انكحها فما كان من إثم فعلي .
وقد ادعى طائفة آخرون من العلماء أن هذه الآية منسوخة ، قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب . قال : ذكر عنده ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ) قال : كان يقال : نسختها [ الآية ] التي بعدها : ( وأنكحوا الأيامى منكم ) [ النور : 32 ] قال : كان يقال الأيامى من المسلمين .
وهكذا رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " الناسخ والمنسوخ " له ، عن سعيد بن المسيب . ونص على ذلك أيضا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ، رحمه الله .
هذه الآية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة ، وهي الحرة البالغة العفيفة ، فإذا كان المقذوف رجلا فكذلك يجلد قاذفه أيضا ، ليس في هذا نزاع بين العلماء . فأما إن أقام القاذف بينة على صحة ما قاله ، رد عنه الحد; ولهذا قال تعالى : ( ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ) ، فأوجب على القاذف إذا لم يقم بينة على صحة ما قاله ثلاثة أحكام :
أحدها : أن يجلد ثمانين جلدة .
الثاني : أنه ترد شهادته دائما .
الثالث : أن يكون فاسقا ليس بعدل ، لا عند الله ولا عند الناس .
ثم قال تعالى : ( إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ) ، اختلف العلماء في هذا الاستثناء : هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط فترفع التوبة الفسق فقط ، ويبقى مردود الشهادة دائما وإن تاب ، أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة ؟ وأما الجلد فقد ذهب وانقضى ، سواء تاب أو أصر ، ولا حكم له بعد ذلك بلا خلاف - فذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته ، وارتفع عنه حكم الفسق . ونص عليه سعيد بن المسيب - سيد التابعين - وجماعة من السلف أيضا .
وقال الإمام أبو حنيفة : إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط ، فيرتفع الفسق بالتوبة ، ويبقى مردود الشهادة أبدا . وممن ذهب إليه من السلف القاضي - شريح ، وإبراهيم النخعي ، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقال الشعبي والضحاك : لا تقبل شهادته وإن تاب ، إلا أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان ، فحينئذ تقبل شهادته ، والله أعلم .
هذه الآية الكريمة فيها فرج للأزواج وزيادة مخرج ، إذا قذف أحدهم زوجته وتعسر عليه إقامة البينة ، أن يلاعنها ، كما أمر الله عز وجل وهو أن يحضرها إلى الإمام ، فيدعي عليها بما رماها به ، فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء ، ( إنه لمن الصادقين ) أي : فيما رماها به من الزنى ،
( والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين ) فإذا قال ذلك ، بانت منه بنفس هذا اللعان عند الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء ، وحرمت عليه أبدا ، ويعطيها مهرها ، ويتوجه عليها حد الزنى ، ولا يدرأ عنها العذاب إلا أن تلاعن ، فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، أي : فيما رماها به ، ( والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ) ولهذا قال :