تفسير سورة النساء تفسير ابن كثير

تفسير سورة النساء بواسطة تفسير ابن كثير هذا ما سنستعرض بإذن الله سويًا ،هي سورة مدنية وجاء ترتيبها 4 في المصحف الكريم وعدد آياتها 176.

تفسير آيات سورة النساء

من
إلى
المفسرون

تفسير يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)

قال العوفي عن ابن عباس : نزلت سورة النساء بالمدينة . وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير ، وزيد بن ثابت ، وروى من طريق عبد الله بن لهيعة ، عن أخيه عيسى ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حبس " .
وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أبو البختري عبد الله بن محمد بن شاكر ، حدثنا محمد بن بشر العبدي ، حدثنا مسعر بن كدام ، عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة ) الآية ، و ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) الآية ، و ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) و ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك ) الآية ، و ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) ثم قال : هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه ، فقد اختلف في ذلك .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن رجل ، عن ابن مسعود قال في خمس آيات من النساء : لهن أحب إلي من الدنيا جميعا : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) وقوله : ( وإن تك حسنة يضاعفها ) وقوله : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) وقوله : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) وقوله : ( والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما ) رواه ابن جرير : ثم روى من طريق صالح المري ، عن قتادة ، عن ابن عباس قال : ثمان آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت ، أولاهن : ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ) والثانية : ( والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ) والثالثة : ( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ) .
ثم ذكر قول ابن مسعود سواء ، يعني في الخمسة . الباقية .
وروى الحاكم من طريق أبي نعيم ، عن سفيان بن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، عن ابن أبي مليكة ; سمعت ابن عباس يقول : سلوني عن سورة النساء ، فإني قرأت القرآن وأنا صغير . ثم قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .
بسم الله الرحمن الرحيم
( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ( 1 ) )
يقول تعالى آمرا خلقه بتقواه ، وهي عبادته وحده لا شريك له ، ومنبها لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة ، وهي آدم ، عليه السلام ( وخلق منها زوجها ) وهي حواء ، عليها السلام ، خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائم ، فاستيقظ فرآها فأعجبته ، فأنس إليها وأنست إليه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مقاتل ، حدثنا وكيع ، عن أبي هلال ، عن قتادة ، عن ابن عباس قال : خلقت المرأة من الرجل ، فجعل نهمتها في الرجل ، وخلق الرجل من الأرض ، فجعل نهمته في الأرض ، فاحبسوا نساءكم .
وفي الحديث الصحيح : " إن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج " .
وقوله : ( وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) أي : وذرأ منهما ، أي : من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء ، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم ، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر .
ثم قال تعالى : ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) أي : واتقوا الله بطاعتكم إياه ، قال إبراهيم ومجاهد والحسن : ( الذي تساءلون به ) أي : كما يقال : أسألك بالله وبالرحم . وقال الضحاك : واتقوا الله الذي به تعاقدون وتعاهدون ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، ولكن بروها وصلوها ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، والضحاك ، والربيع وغير واحد .
وقرأ بعضهم : ( والأرحام ) بالخفض على العطف على الضمير في به ، أي : تساءلون بالله وبالأرحام ، كما قال مجاهد وغيره .
وقوله : ( إن الله كان عليكم رقيبا ) أي : هو مراقب لجميع أعمالكم وأحوالكم كما قال : ( والله على كل شيء شهيد ) [ البروج : 9 ] .
وفي الحديث الصحيح : " اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب ; ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب [ واحد ] وأم واحدة; ليعطف بعضهم على بعض ، ويحننهم على ضعفائهم ، وقد ثبت في صحيح مسلم ، من حديث جرير بن عبد الله البجلي; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر - وهم مجتابو النمار - أي من عريهم وفقرهم - قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته : ( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) حتى ختم الآية وقال : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد [ واتقوا الله ] ) [ الحشر : 18 ] ثم حضهم على الصدقة فقال : " تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من صاع بره ، صاع تمره . . . " وذكر تمام الحديث .
وهكذا رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة وفيها ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم [ الذي خلقكم من نفس واحدة ] ) الآية .

تفسير وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)

يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة ، وينهى عن أكلها وضمها إلى أموالهم; ولهذا قال : ( ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ) قال سفيان الثوري ، عن أبي صالح : لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال الذي قدر لك .
وقال سعيد بن جبير : لا تبدلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم ، يقول : لا تبذروا أموالكم الحلال وتأكلوا أموالهم الحرام .
وقال سعيد بن المسيب والزهري : لا تعط مهزولا وتأخذ سمينا .
وقال إبراهيم النخعي والضحاك : لا تعط زائفا وتأخذ جيدا .
وقال السدي : كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ، ويجعل فيها مكانها الشاة المهزولة ، ويقول شاة بشاة ، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف ، ويقول : درهم بدرهم .
وقوله : ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومقاتل بن حيان ، والسدي ، وسفيان بن حسين : أي لا تخلطوها فتأكلوها جميعا .
وقوله : ( إنه كان حوبا كبيرا ) قال ابن عباس : أي إثما كبيرا عظيما .
وقد رواه ابن مردويه ، عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : ( حوبا كبيرا ) قال : " إثما كبيرا " . ولكن في إسناده محمد بن يونس الكديمي وهو ضعيف وهكذا روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وابن سيرين ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وأبي مالك ، وزيد بن أسلم ، وأبي سنان مثل قول ابن عباس .
وفي الحديث المروي في سنن أبي داود : " اغفر لنا حوبنا وخطايانا " .
وروى ابن مردويه بإسناده إلى واصل ، مولى أبي عيينة ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس : أن أبا أيوب طلق امرأته ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أبا أيوب ، إن طلاق أم أيوب كان حوبا " قال ابن سيرين : الحوب الإثم .
ثم قال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي ، حدثنا بشر بن موسى ، أخبرنا هوذة بن خليفة ، أخبرنا عوف ، عن أنس : أن أبا أيوب أراد طلاق أم أيوب ، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن طلاق أم أيوب لحوب فأمسكها " ثم رواه ابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث علي بن عاصم ، عن حميد الطويل ، سمعت أنس بن مالك يقول : أراد أبو طلحة أن يطلق أم سليم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن طلاق أم سليم لحوب " فكف .
والمعنى : إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه .

تفسير وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا (3)

وقوله : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى ) أي : إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف ألا يعطيها مهر مثلها ، فليعدل إلى ما سواها من النساء ، فإنهن كثير ، ولم يضيق الله عليه .
وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام ، عن ابن جريج ، أخبرني هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة; أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها ، وكان لها عذق . وكان يمسكها عليه ، ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه : ( وإن خفتم ألا تقسطوا [ في اليتامى ] ) أحسبه قال : كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله .
ثم قال البخاري : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) قالت : يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن . قال عروة : قالت عائشة : وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية ، فأنزل الله [ تعالى ] ( ويستفتونك في النساء ) قالت عائشة : وقول الله في الآية الأخرى : ( وترغبون أن تنكحوهن ) [ النساء : 127 ] رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال . فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من يتامى النساء إلا بالقسط ، من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال .
وقوله : ( مثنى وثلاث ورباع ) أي : انكحوا ما شئتم من النساء سواهن إن شاء أحدكم ثنتين ، [ وإن شاء ثلاثا ] وإن شاء أربعا ، كما قال تعالى : ( جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ) [ فاطر : 1 ] أي : منهم من له جناحان ، ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، ولا ينفي ما عدا ذلك في الملائكة لدلالة الدليل عليه ، بخلاف قصر الرجال على أربع ، فمن هذه الآية كما قاله ابن عباس وجمهور العلماء; لأن المقام مقام امتنان وإباحة ، فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره .
قال الشافعي : وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة .
وهذا الذي قاله الشافعي ، رحمه الله ، مجمع عليه بين العلماء ، إلا ما حكي عن طائفة من الشيعة أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع . وقال بعضهم : بلا حصر . وقد يتمسك بعضهم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في جمعه بين أكثر من أربع إلى تسع كما ثبت في الصحيحين ، وأما إحدى عشرة كما جاء في بعض ألفاظ البخاري . وقد علقه البخاري ، وقد روينا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بخمس عشرة امرأة ، ودخل منهن بثلاث عشرة ، واجتمع عنده إحدى عشرة ومات عن تسع . وهذا عند العلماء من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأمة ، لما سنذكره من الأحاديث الدالة على الحصر في أربع .
ذكر الأحاديث في ذلك :
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفر قالا حدثنا معمر ، عن الزهري . قال ابن جعفر في حديثه : أنبأنا ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه : أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشرة نسوة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : اختر منهن أربعا . فلما كان في عهد عمر طلق نساءه ، وقسم ماله بين بنيه ، فبلغ ذلك عمر فقال : إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك ولعلك لا تمكث إلا قليلا . وايم الله لتراجعن نساءك ولترجعن في مالك أو لأورثهن منك ، ولآمرن بقبرك فيرجم ، كما رجم قبر أبي رغال .
وهكذا رواه الشافعي والترمذي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وغيرهم عن اسماعيل بن علية وغندر ويزيد بن زريع وسعيد بن أبي عروبة ، وسفيان الثوري ، وعيسى بن يونس ، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي ، والفضل بن موسى وغيرهم من الحفاظ ، عن معمر - بإسناده - مثله إلى قوله : اختر منهن أربعا . وباقي الحديث في قصة عمر من أفراد أحمد وهي زيادة حسنة وهي مضعفة لما علل به البخاري هذا الحديث فيما حكاه عنه الترمذي ، حيث قال بعد روايته له : سمعت البخاري يقول : هذا حديث غير محفوظ ، والصحيح ما روى شعيب وغيره ، عن الزهري ، حدثت عن محمد بن سويد الثقفي أن غيلان بن سلمة ، فذكره . قال البخاري : وإنما حديث الزهري عن سالم عن أبيه : أن رجلا من ثقيف طلق نساءه ، فقال له عمر : لتراجعن نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال .
وهذا التعليل فيه نظر ، والله أعلم . وقد رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري مرسلا وهكذا رواه مالك ، عن الزهري مرسلا . قال أبو زرعة : وهو أصح .
قال البيهقي : ورواه عقيل ، عن الزهري : بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد .
قال أبو حاتم : وهذا وهم ، إنما هو الزهري عن عثمان بن أبي سويد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره .
قال البيهقي : ورواه يونس وابن عيينة ، عن الزهري ، عن محمد بن أبي سويد .
وهذا كما علله البخاري . وهذا الإسناد الذي قدمناه من مسند الإمام أحمد رجاله ثقات على شرط الصحيحين ثم قد روي من غير طريق معمر ، بل والزهري قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو علي الحافظ ، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي ، حدثنا أبو بريد عمرو بن يزيد الجرمي أخبرنا سيف بن عبيد حدثنا سرار بن مجشر ، عن أيوب ، عن نافع وسالم ، عن ابن عمر : أن غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوة فأسلم وأسلمن معه ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا . هكذا أخرجه النسائي في سننه . قال أبو علي بن السكن : تفرد به سرار بن مجشر وهو ثقة ، وكذا وثقه ابن معين . قال أبو علي : وكذلك رواه السميدع بن واهب عن سرار .
قال البيهقي : وروينا من حديث قيس بن الحارث أو الحارث بن قيس ، وعروة بن مسعود الثقفي ، وصفوان بن أمية - يعني حديث غيلان بن سلمة .
فوجه الدلالة أنه لو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لسوغ له رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرهن في بقاء العشرة وقد أسلمن معه ، فلما أمره بإمساك أربع وفراق سائرهن دل على أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع بحال ، وإذا كان هذا في الدوام ، ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .
حديث آخر في ذلك : روى أبو داود وابن ماجه في سننهما من طريق محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى ، عن حميضة بن الشمردل - وعند ابن ماجه : بنت الشمردل ، وحكى أبو داود أن منهم من يقول : الشمرذل بالذال المعجمة - عن قيس بن الحارث . وعند أبي داود في رواية : الحارث بن قيس بن عميرة الأسدي قال : أسلمت وعندي ثمان نسوة ، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " اختر منهن أربعا " .
وهذا الإسناد حسن ، ومجرد هذا الاختلاف لا يضر مثله ، لما للحديث من الشواهد .
حديث آخر في ذلك : قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ، رحمه الله ، في مسنده : أخبرني من سمع ابن أبي الزناد يقول : أخبرني عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن عن عوف بن الحارث ، عن نوفل بن معاوية الديلي ، رضي الله عنه ، قال : أسلمت وعندي خمس نسوة ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اختر أربعا أيتهن شئت ، وفارق الأخرى " ، فعمدت إلى أقدمهن صحبة عجوز عاقر معي منذ ستين سنة ، فطلقتها .
فهذه كلها شواهد بصحة ما تقدم من حديث غيلان كما قاله الحافظ أبو بكر البيهقي ، رحمه الله .
وقوله : ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ) أي : فإن خشيتم من تعداد النساء ألا تعدلوا بينهن ، كما قال تعالى : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) [ النساء : 129 ] فمن خاف من ذلك فيقتصر على واحدة ، أو على الجواري السراري ، فإنه لا يجب قسم بينهن ، ولكن يستحب ، فمن فعل فحسن ، ومن لا فلا حرج .
وقوله : ( ذلك أدنى ألا تعولوا ) قال بعضهم : [ أي ] أدنى ألا تكثر عائلتكم . قاله زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشافعي ، رحمهم الله ، وهذا مأخوذ من قوله تعالى : ( وإن خفتم عيلة ) أي فقرا ( فسوف يغنيكم الله من فضله ) [ التوبة : 28 ] وقال الشاعر
فما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل
وتقول العرب : عال الرجل يعيل عيلة ، إذا افتقر ولكن في هذا التفسير هاهنا نظر; فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر ، كذلك يخشى من تعداد السراري أيضا . والصحيح قول الجمهور : ( ذلك أدنى ألا تعولوا ) أي : لا تجوروا . يقال : عال في الحكم : إذا قسط وظلم وجار ، وقال أبو طالب في قصيدته المشهورة :
بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل
وقال هشيم : عن أبي إسحاق قال : كتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه : إني لست بميزان لا أعول . رواه ابن جرير .
وقد روى ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو حاتم ابن حبان في صحيحه ، من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم ، حدثنا محمد بن شعيب ، عن عمر بن محمد بن زيد ، عن عبد الله بن عمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( ذلك أدنى ألا تعولوا ) قال : " لا تجوروا " .
قال ابن أبي حاتم : قال أبي : هذا حديث خطأ ، والصحيح : عن عائشة . موقوف .
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس ، وعائشة ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وأبي مالك وأبي رزين والنخعي ، والشعبي ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : أنهم قالوا : لا تميلوا وقد استشهد عكرمة ، رحمه الله ، ببيت أبي طالب الذي قدمناه ، ولكن ما أنشده كما هو المروي في السيرة ، وقد رواه ابن جرير ، ثم أنشده جيدا ، واختار ذلك .

تفسير وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)

وقوله : ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : النحلة : المهر .
وقال محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : نحلة : فريضة . وقال مقاتل وقتادة وابن جريج : نحلة : أي فريضة . زاد ابن جريج : مسماه . وقال ابن زيد : النحلة في كلام العرب : الواجب ، يقول : لا تنكحها إلا بشيء واجب لها ، وليس ينبغي لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب ، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبا بغير حق .
ومضمون كلامهم : أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتما ، وأن يكون طيب النفس بذلك ، كما يمنح المنيحة ويعطي النحلة طيبا بها ، كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيبا بذلك ، فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيء منه فليأكله حلالا طيبا; ولهذا قال [ تعالى ] ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا )
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن السدي ، عن يعقوب بن المغيرة بن شعبة ، عن علي قال : إذا اشتكى أحدكم شيئا ، فليسأل امرأته ثلاثة دراهم أو نحو ذلك ، فليبتع بها عسلا ثم ليأخذ ماء السماء فيجتمع هنيئا مريئا شفاء مباركا .
وقال هشيم ، عن سيار ، عن أبي صالح قال : كان الرجل إذا زوج ابنته أخذ صداقها دونها ، فنهاهم الله عن ذلك ، ونزل : ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وكيع ، عن سفيان عن عمير الخثعمي ، عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي ، عن عبد الرحمن بن البيلماني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ) قالوا : يا رسول الله ، فما العلائق بينهم ؟ قال : " ما تراضى عليه أهلوهم " .
وقد روى ابن مردويه من طريق حجاج بن أرطاة ، عن عبد الملك بن المغيرة ، عن عبد الرحمن بن البيلماني عن عمر بن الخطاب قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أنكحوا الأيامى " ثلاثا ، فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله ، ما العلائق بينهم ؟ قال : " ما تراضى عليه أهلوهم " .
ابن البيلماني ضعيف ، ثم فيه انقطاع أيضا .

تفسير وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)

ينهى تعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قياما ، أي : تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها . ومن هاهنا يؤخذ الحجر على السفهاء ، وهم أقسام : فتارة يكون الحجر للصغر; فإن الصغير مسلوب العبارة . وتارة يكون الحجر للجنون ، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين ، وتارة يكون الحجر للفلس ، وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها ، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه .
وقد قال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ) قال : هم بنوك والنساء ، وكذا قال ابن مسعود ، والحكم بن عتيبة والحسن ، والضحاك : هم النساء والصبيان .
وقال سعيد بن جبير : هم اليتامى . وقال مجاهد وعكرمة وقتادة : هم النساء .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا عثمان بن أبي العائكة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وإن النساء السفهاء إلا التي أطاعت قيمها " .
ورواه ابن مردويه مطولا .
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن مسلم بن إبراهيم ، حدثنا حرب بن سريج عن معاوية بن قرة عن أبي هريرة ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ) قال : الخدم ، وهم شياطين الإنس وهم الخدم .
وقوله : ( وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس يقول [ تعالى ] لا تعمد إلى مالك وما خولك الله ، وجعله معيشة ، فتعطيه امرأتك أو بنيك ، ثم تنظر إلى ما في أيديهم ، ولكن أمسك مالك وأصلحه ، وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤنتهم ورزقهم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن فراس ، عن الشعبي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى قال : ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم : رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ، ورجل أعطى ماله سفيها ، وقد قال : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ) ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه .
وقال مجاهد : ( وقولوا لهم قولا معروفا ) يعني في البر والصلة .
وهذه الآية الكريمة انتظمت الإحسان إلى العائلة ، ومن تحت الحجر بالفعل ، من الإنفاق في الكساوى والإنفاق والكلام الطيب ، وتحسين الأخلاق .

تفسير وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا ۚ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)

وقوله تعالى : ( وابتلوا اليتامى ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : أي اختبروهم ( حتى إذا بلغوا النكاح ) قال مجاهد : يعني : الحلم . قال الجمهور من العلماء : البلوغ في الغلام تارة يكون بالحلم ، وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد . وقد روى أبو داود في سننه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل " .
وفي الحديث الآخر عن عائشة وغيرها من الصحابة ، رضي الله عنهم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يحتلم ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق " أو يستكمل خمس عشرة سنة ، وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة ، فلم يجزني ، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني ، فقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز - لما بلغه هذا الحديث - إن هذا الفرق بين الصغير والكبير .
واختلفوا في إنبات الشعر الخشن حول الفرج ، وهو الشعرة ، هل تدل على بلوغ أم لا ؟ على ثلاثة أقوال ، يفرق في الثالث بين صبيان المسلمين ، فلا يدل على ذلك لاحتمال المعالجة ، وبين صبيان أهل الذمة فيكون بلوغا في حقهم ; لأنه لا يتعجل بها إلا ضرب الجزية عليه ، فلا يعالجها . والصحيح أنها بلوغ في حق الجميع لأن هذا أمر جبلي يستوي فيه الناس ، واحتمال المعالجة بعيد ، ثم قد دلت السنة على ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن عطية القرظي ، رضي الله عنه قال : عرضنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فكان من أنبت قتل ، ومن لم ينبت خلي سبيله ، فكنت فيمن لم ينبت ، فخلى سبيلي .
وقد أخرجه أهل السنن الأربعة بنحوه وقال الترمذي : حسن صحيح . وإنما كان كذلك; لأن سعد بن معاذ ، رضي الله عنه ، كان قد حكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذرية .
وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " الغريب " : حدثنا ابن علية ، عن إسماعيل بن أمية ، عن محمد بن يحيى بن حيان ، عن عمر : أن غلاما ابتهر جارية في شعره ، فقال عمر ، رضي الله عنه : انظروا إليه . فلم يوجد أنبت ، فدرأ عنه الحد . قال أبو عبيد : ابتهرها : أي قذفها ، والابتهار أن يقول : فعلت بها وهو كاذب فإن كان صادقا فهو الابتيار ، قال الكميت في شعره .
قبيح بمثلي نعت الفتاة إما ابتهارا وإما ابتيارا
وقوله : ( فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ) قال سعيد بن جبير : يعني : صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم . وكذا روي عن ابن عباس ، والحسن البصري ، وغير واحد من الأئمة . وهكذا قال الفقهاء متى بلغ الغلام مصلحا لدينه وماله ، انفك الحجر عنه ، فيسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه بطريقه .
وقوله : ( ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ) ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية إسرافا ومبادرة قبل بلوغهم .
ثم قال تعالى : ( ومن كان غنيا فليستعفف ) [ أي ] من كان في غنية عن مال اليتيم فليستعفف عنه ، ولا يأكل منه شيئا . قال الشعبي : هو عليه كالميتة والدم .
( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا الأشج ، حدثنا عبد الله بن سليمان ، حدثنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : ( ومن كان غنيا فليستعفف ) نزلت في مال اليتيم .
وحدثنا الأشج وهارون بن إسحاق قالا حدثنا عبدة بن سليمان ، عن هشام ، عن أبيه ، عن . . ، قالت : نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا أن يأكل منه .
وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني ، حدثنا علي بن مسهر ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : أنزلت هذه الآية في والي اليتيم ( ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) بقدر قيامه عليه .
ورواه البخاري عن إسحاق عن عبد الله بن نمير ، عن هشام ، به .
قال الفقهاء : له أن يأكل أقل الأمرين : أجرة مثله أو قدر حاجته . واختلفوا : هل يرد إذا أيسر ، على قولين : أحدهما : لا; لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا . وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي; لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل . وقد قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا حسين ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ليس لي مال ، ولي يتيم ؟ فقال : " كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك - أو قال : تفدي مالك - بماله " شك حسين .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، حدثنا حسين المكتب ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن عندي يتيما عنده مال - وليس عنده شيء ما - آكل من ماله ؟ قال : " بالمعروف غير مسرف " .
ورواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث حسين المعلم به .
وروى أبو حاتم ابن حبان في صحيحه ، وابن مردويه في تفسيره من حديث يعلى بن مهدي ، عن جعفر بن سليمان ، عن أبي عامر الخزاز ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر : أن رجلا قال : يا رسول الله ، فيم أضرب يتيمي ؟ قال : ما كنت ضاربا منه ولدك ، غير واق مالك بماله ، ولا متأثل منه مالا .
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن يحيى ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا الثوري ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أيتاما ، وإن لهم إبلا ولي إبل ، وأنا أمنح في إبلي وأفقر ، فماذا يحل لي من ألبانها ؟ فقال : إن كنت تبغي ضالتها وتهنأ جرباها ، وتلوط حوضها ، وتسقي عليها ، فاشرب غير مضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب .
ورواه مالك في موطئه ، عن يحيى بن سعيد به .
وبهذا القول - وهو عدم أداء البدل - يقول عطاء بن أبي رباح ، وعكرمة ، وإبراهيم النخعي ، وعطية العوفي ، والحسن البصري .
والثاني : نعم; لأن مال اليتيم على الحظر ، وإنما أبيح للحاجة ، فيرد بدله كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة . وقد قال أبو بكر ابن أبي الدنيا : حدثنا ابن خيثمة ، حدثنا وكيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرب قال : قال عمر [ بن الخطاب ] رضي الله عنه : إنى أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة والي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت استقرضت ، فإذا أيسرت قضيت .
طريق أخرى : قال سعيد بن منصور : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : قال لي عمر ، رضي الله عنه : إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم ، إن احتجت أخذت منه ، فإذا أيسرت رددته ، وإن استغنيت استعففت .
إسناد صحيح وروى البيهقي عن ابن عباس نحو ذلك . وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) يعني : القرض . قال : وروي عن عبيدة ، وأبي العالية ، وأبي وائل ، وسعيد بن جبير - في إحدى الروايات - ومجاهد ، والضحاك ، والسدي نحو ذلك . وروي من طريق السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : ( فليأكل بالمعروف ) قال : يأكل بثلاث أصابع .
ثم قال : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا ابن مهدي ، حدثنا سفيان ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس : ( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) قال : يأكل من ماله ، يقوت على يتيمه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم . قال : وروي عن مجاهد وميمون بن مهران في إحدى الروايات والحكم نحو ذلك .
وقال عامر الشعبي : لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه ، كما يضطر إلى [ أكل ] الميتة ، فإن أكل منه قضاه . رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن وهب : حدثني نافع بن أبي نعيم القارئ قال : سألت يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة عن قول الله : ( فليأكل بالمعروف ) فقالا ذلك في اليتيم ، إن كان فقيرا أنفق عليه بقدر فقره ، ولم يكن للولي منه شيء .
وهذا بعيد من السياق; لأنه قال : ( ومن كان غنيا فليستعفف ) يعني : من الأولياء ( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) أي : منهم ( فليأكل بالمعروف ) أي : بالتي هي أحسن ، كما قال في الآية الأخرى : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ) [ الإسراء : 34 ] أي : لا تقربوه إلا مصلحين له ، وإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف .
وقوله : ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم ) يعني : بعد بلوغهم الحلم وإيناس الرشد [ منهم ] فحينئذ سلموهم أموالهم ، فإذا دفعتم إليهم أموالهم ( فأشهدوا عليهم ) وهذا أمر الله تعالى للأولياء أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم وسلموا إليهم أموالهم; لئلا يقع من بعضهم جحود وإنكار لما قبضه وتسلمه .
ثم قال : ( وكفى بالله حسيبا ) أي : وكفى بالله محاسبا وشهيدا ورقيبا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام ، وحال تسليمهم للأموال : هل هي كاملة موفرة ، أو منقوصة مبخوسة مدخلة مروج حسابها مدلس أمورها ؟ الله عالم بذلك كله . ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تلين مال يتيم " .

تفسير لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ۚ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)

قال سعيد بن جبير وقتادة : كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا ، فأنزل الله : ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون [ وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ] ) أي : الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى ، يستوون في أصل الوراثة وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله [ تعالى ] لكل منهم ، بما يدلي به إلى الميت من قرابة ، أو زوجية ، أو ولاء . فإنه لحمة كلحمة النسب . وقد روى ابن مردويه من طريق ابن هراسة عن سفيان الثوري ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر قال : جاءت أم كجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن لي ابنتين ، وقد مات أبوهما ، وليس لهما شيء ، فأنزل الله تعالى : ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ) الآية ، وسيأتي هذا الحديث عند آيتي الميراث بسياق آخر ، والله أعلم .