تفسير سورة محمد تفسير ابن كثير

تفسير سورة محمد بواسطة تفسير ابن كثير هذا ما سنستعرض بإذن الله سويًا ،هي سورة مدنية وجاء ترتيبها 47 في المصحف الكريم وعدد آياتها 38.

تفسير آيات سورة محمد

من
إلى
المفسرون

تفسير الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)

يقول تعالى : ( الذين كفروا ) أي : بآيات الله ، ( وصدوا ) غيرهم ( عن سبيل الله أضل أعمالهم ) أي : أبطلها وأذهبها ، ولم يجعل لها جزاء ولا ثوابا ، كقوله تعالى : ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) [ الفرقان : 23 ] .

تفسير وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ۙ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)

ثم قال : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات ) أي : آمنت قلوبهم وسرائرهم ، وانقادت جوارحهم وبواطنهم وظواهرهم ، ( وآمنوا بما نزل على محمد ) ، عطف خاص على عام ، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلوات الله وسلامه عليه .
وقوله : ( وهو الحق من ربهم ) جملة معترضة حسنة ; ولهذا قال : ( كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ) قال ابن عباس : أي أمرهم . وقال مجاهد : شأنهم . وقال قتادة وابن زيد : حالهم . والكل متقارب . وقد جاء في حديث تشميت العاطس : " يهديكم الله ويصلح بالكم " .

تفسير ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)

ثم قال تعالى : ( ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل ) أي : إنما أبطلنا أعمال الكفار ، وتجاوزنا عن سيئات الأبرار ، وأصلحنا شئونهم ; لأن الذين كفروا اتبعوا الباطل ، أي : اختاروا الباطل على الحق ، ( وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم ) أي : يبين لهم مآل أعمالهم ، وما يصيرون إليه في معادهم .

تفسير فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)

يقول تعالى مرشدا للمؤمنين إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ) أي : إذا واجهتموهم فاحصدوهم حصدا بالسيوف ، ( حتى إذا أثخنتموهم فشدوا ) أي : أهلكتموهم قتلا ) فشدوا ) [ وثاق ] الأسارى الذين تأسرونهم ، ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم ، إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجانا ، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشاطرونهم عليه . والظاهر أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر ، فإن الله ، سبحانه ، عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ ليأخذوا منهم الفداء ، والتقلل من القتل يومئذ فقال : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) [ الأنفال : 67 ، 68 ] .
ثم قد ادعى بعض العلماء أن هذه الآية - المخيرة بين مفاداة الأسير والمن عليه - منسوخة بقوله تعالى : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ] ) الآية [ التوبة : 5 ] ، رواه العوفي عن ابن عباس . وقاله قتادة ، والضحاك ، والسدي ، وابن جريج .
وقال الآخرون - وهم الأكثرون - : ليست بمنسوخة .
ثم قال بعضهم : إنما الإمام مخير بين المن على الأسير ومفاداته فقط ، ولا يجوز له قتله .
وقال آخرون منهم : بل له أن يقتله إن شاء ؛ لحديث قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط من أسارى بدر ، وقال ثمامة بن أثال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال له : " ما عندك يا ثمامة ؟ " فقال : إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تمنن تمنن على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت .
وزاد الشافعي ، رحمه الله ، فقال : الإمام مخير بين قتله أو المن عليه ، أو مفاداته أو استرقاقه أيضا . وهذه المسألة محررة في علم الفروع ، وقد دللنا على ذلك في كتابنا " الأحكام " ، ولله الحمد والمنة .
وقوله : ( حتى تضع الحرب أوزارها ) قال مجاهد : حتى ينزل عيسى ابن مريم [ عليه السلام ] . وكأنه أخذه من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن إبراهيم بن سليمان ، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي ، عن جبير بن نفير أن سلمة بن نفيل أخبرهم : أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني سيبت الخيل ، وألقيت السلاح ، ووضعت الحرب أوزارها ، وقلت : " لا قتال " فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الآن جاء القتال ، لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس يزيغ الله قلوب أقوام فيقاتلونهم : ويرزقهم الله منهم ، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك . ألا إن عقر دار المؤمنين الشام ، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة " .
وهكذا رواه النسائي من طريقين ، عن جبير بن نفير ، عن سلمة بن نفيل السكوني به .
وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا داود بن رشيد ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن محمد بن مهاجر ، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي ، عن جبير بن نفير ، عن النواس بن سمعان قال : لما فتح على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح فقالوا : يا رسول الله ، سيبت الخيل ، ووضعت السلاح ، ووضعت الحرب أوزارها ، قالوا : لا قتال ، قال : " كذبوا ، الآن ، جاء القتال ، لا يزال الله يرفع قلوب قوم يقاتلونهم ، فيرزقهم منهم ، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ، وعقر دار المسلمين بالشام " .
وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن داود بن رشيد به . والمحفوظ أنه من رواية سلمة بن نفيل كما تقدم . وهذا يقوي القول بعدم النسخ ، كأنه شرع هذا الحكم في الحرب إلى ألا يبقى حرب .
وقال قتادة : ( حتى تضع الحرب أوزارها ) حتى لا يبقى شرك . وهذا كقوله تعالى : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) [ البقرة : 193 ] . ثم قال بعضهم : ( حتى تضع الحرب أوزارها ) أي : أوزار المحاربين ، وهم المشركون ، بأن يتوبوا إلى الله عز وجل . وقيل : أوزار أهلها بأن يبذلوا الوسع في طاعة الله ، عز وجل .
وقوله : ( ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ) أي : هذا ولو شاء الله لانتقم من الكافرين بعقوبة ونكال من عنده ، ( ولكن ليبلو بعضكم ببعض ) أي : ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم ، ويبلو أخباركم . كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في سورتي " آل عمران " و " براءة " في قوله : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) [ آل عمران : 142 ] .
وقال في سورة براءة : ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم ) [ التوبة : 14 ، 15 ] .
ثم لما كان من شأن القتال أن يقتل كثير من المؤمنين ، قال : ( والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم ) أي : لن يذهبها بل يكثرها وينميها ويضاعفها . ومنهم من يجري عليه عمله في طول برزخه ، كما ورد بذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده ، حيث قال :
حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي ، حدثنا ابن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن كثير بن مرة ، عن قيس الجذامي - رجل كانت له صحبة - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه : يكفر عنه كل خطيئة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويزوج من الحور العين ، ويؤمن من الفزع الأكبر ، ومن عذاب القبر ، ويحلى حلة الإيمان " . تفرد به أحمد رحمه الله .
حديث آخر : قال أحمد أيضا : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن بحير بن سعيد ، عن خالد بن معدان ، عن المقدام بن معدي كرب الكندي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن للشهيد عند الله ست خصال : أن يغفر له في أول دفعة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى حلة الإيمان ، ويزوج من الحور العين ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه " .
وقد أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجه .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو ، وعن أبي قتادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين " . وروي من حديث جماعة من الصحابة . وقال أبو الدرداء : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته " . ورواه أبو داود . والأحاديث في فضل الشهيد كثيرة جدا .

تفسير سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)

وقوله : ( سيهديهم ) أي : إلى الجنة ، كقوله تعالى : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم ) [ يونس : 9 ] .
وقوله : ( ويصلح بالهم ) أي : أمرهم وحالهم ،

تفسير وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)

( ويدخلهم الجنة عرفها لهم ) أي : عرفهم بها وهداهم إليها .
قال مجاهد : يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم ، وحيث قسم الله لهم منها ، لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا ، لا يستدلون عليها أحدا . وروى مالك عن ابن زيد بن أسلم نحو هذا .
وقال محمد بن كعب : يعرفون بيوتهم إذا دخلوا الجنة ، كما تعرفون بيوتكم إذا انصرفتم من الجمعة .
وقال مقاتل بن حيان : بلغنا أن الملك الذي كان وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة ، ويتبعه ابن آدم حتى يأتي أقصى منزل هو له ، فيعرفه كل شيء أعطاه الله في الجنة ، فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة دخل [ إلى ] منزله وأزواجه ، وانصرف الملك عنه ، ذكرهن ابن أبي حاتم ، رحمه الله .
وقد ورد الحديث الصحيح بذلك أيضا ، رواه البخاري من حديث قتادة ، عن أبي المتوكل الناجي ، عن أبي سعيد الخدري [ رضي الله عنه ] أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار ، يتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ، والذي نفسي بيده ، إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا " .

تفسير يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)

ثم قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) ، كقوله : ( ولينصرن الله من ينصره ) [ الحج : 40 ] ، فإن الجزاء من جنس العمل ; ولهذا قال : ( ويثبت أقدامكم ) ، كما جاء في الحديث : " من بلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها ، ثبت الله قدمه على الصراط يوم القيامة".