تفسير سورة الحشر تفسير البغوي

تفسير سورة الحشر بواسطة تفسير البغوي هذا ما سنستعرض بإذن الله سويًا ،هي سورة مدنية وجاء ترتيبها 59 في المصحف الكريم وعدد آياتها 24.

تفسير آيات سورة الحشر

من
إلى
المفسرون

تفسير سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)

مدنية
قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : سورة الحشر قال : قل : سورة النضير
( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ) قال المفسرون : نزلت هذه السورة في بني النضير وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المدينة فصالحته بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه فقبل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم . فلما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدرا وظهر على المشركين قالت بنو النضير : والله إنه النبي الذي وجدنا نعته في التوراة لا ترد له راية فلما غزا أحدا وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة فأتوا قريشا فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد - صلى الله عليه وسلم - ودخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد الحرام وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار والكعبة . ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة ونزل جبريل فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة - ذكرناه في سورة آل عمران .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع منهم على خيانة حين أتاهم في دية المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في منصرفه من بئر معونة فهموا بطرح حجر عليه من فوق الحصن فعصمه الله وأخبره بذلك - ذكرناه في سورة المائدة .
فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير وكانوا بقرية يقال لها زهرة فلما سار إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف فقالوا : يا محمد واعية على إثر واعية ، وباكية على إثر باكية قال : نعم . قالوا : ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : اخرجوا من المدينة . فقالوا : الموت أقرب إلينا من ذلك فتنادوا بالحرب وآذنوا بالقتال ودس المنافقون - عبد الله بن أبي وأصحابه - إليهم : أن لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم ولئن أخرجتم لنخرجن معكم ، فدربوا على الأزقة وحصنوها . ثم إنهم أجمعوا على الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسلوا إليه : أن اخرج في ثلاثين رجلا من أصحابك وليخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان بيننا وبينك فيستمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثين من أصحابه وخرج إليه ثلاثون حبرا من اليهود حتى إذا كانوا في براز من الأرض قال بعض اليهود لبعض : كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلا من أصحابه كلهم يحب أن يموت قبله ؟ ! فأرسلوا إليه : كيف نفهم ونحن ستون رجلا اخرج في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا فيستمعوا منك فإن آمنوا بك آمنا كلنا بك وصدقناك فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة من أصحابه وخرج ثلاثة من اليهود واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل أخوها سريعا حتى أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - فساره بخبرهم قبل أن يصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم ، فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة فقذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلح فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقبلوا ذلك فصالحهم على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من أموالهم إلا الحلقة - وهي السلاح - وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم .
وقال ابن عباس : على أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم ، ولنبي الله - صلى الله عليه وسلم - ما بقي .
وقال الضحاك : أعطي كل ثلاثة نفر بعيرا وسقاة ، ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحاء إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة منهم بالحيرة فذلك قوله - عز وجل - : ( هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب ) .

تفسير هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)

( هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب ) يعني بني النضير ( من ديارهم ) التي كانت بيثرب قال ابن إسحاق : كان إجلاء بني النضير بعد مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحد ، وفتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان . ( لأول الحشر ) قال الزهري : كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى وكان الله - عز وجل - قد كتب عليهم الجلاء ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا .
قال ابن عباس : من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية فكان هذا أول حشر إلى الشام قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : اخرجوا قالوا ، إلى أين ؟ قال : إلى أرض المحشر ثم يحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام .
وقال الكلبي : إنما قال : " لأول الحشر " لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب ثم أجلى آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
قال مرة الهمداني : كان أول الحشر من المدينة والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحاء من الشام في أيام عمر .
وقال قتادة : كان هذا أول الحشر والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا .
( ما ظننتم ) أيها المؤمنون ( أن يخرجوا ) من المدينة لعزتهم ومنعتهم وذلك أنهم كانوا أهل حصون وعقار ونخيل كثيرة . ( وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ) أي : وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله ( فأتاهم الله ) أي أمر الله وعذابه ( من حيث لم يحتسبوا ) أنه أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك ( وقذف في قلوبهم الرعب ) بقتل سيدهم كعب بن الأشرف . ( يخربون ) قرأ أبو عمرو : بالتشديد والآخرون بالتخفيف ومعناهما واحد ( بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) قال الزهري : وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صالحهم على أن لهم ما أقلت الإبل كانوا ينظرون إلى الخشب في منازلهم فيهدمونها وينزعون منها ما يستحسنونه فيحملونه على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها . قالابن زيد : كانوا يقلعون العمد وينقضون السقوف وينقبون الجدران ويقلعون الخشب حتى الأوتاد يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون حسدا منهم وبغضا . قال قتادة : كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ويخربها اليهود من داخلها .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها لتتسع لهم المقاتل وجعل أعداء الله ينقبون دورهم في أدبارها فيخرجون إلى التي بعدها فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذلك قوله - عز وجل - : ( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ) فاتعظوا وانظروا فيما نزل بهم ( يا أولي الأبصار ) يا ذوي العقول والبصائر .

تفسير وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)

( ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء ) الخروج من الوطن ( لعذبهم في الدنيا ) بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة ( ولهم في الآخرة عذاب النار ) .

تفسير ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۖ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)

( ذلك ) الذي لحقهم ( بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب )

تفسير مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)

( ما قطعتم من لينة ) الآية . وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا : يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح ! أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخيل فهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض ؟ ! فوجد المسلمون في أنفسهم [ من قولهم وخشوا ] أن يكون ذلك فسادا واختلفوا في ذلك فقال بعضهم : لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا . وقال بعضهم : بل نغيظهم بقطعها . فأنزل الله هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا آدم حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر قال : حرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخل بني النضير وقطع البويرة فنزلت ( ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله )
( ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله ) أخبر الله في هذه الآية أن ما قطعوه وما تركوه فبإذن الله ( وليخزي الفاسقين )
واختلفوا في " اللينة " فقال قوم : النخل كلها لينة ما خلا العجوة [ وهو قول عكرمة وقتادة . ورواه زاذان عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقطع نخلهم إلا العجوة ] وأهل المدينة يسمون ما خلا العجوة من التمرة : الألوان واحدها لون ولينة . وقال الزهري : هي ألوان النخل كلها إلا العجوة والبرنية .
وقال مجاهد وعطية : هي النخل كلها من غير استثناء . وقال العوفي عن ابن عباس - رضي الله عنهم - : هي لون من النخل . وقال سفيان : هي كرام النخل .
وقال مقاتل هي ضرب من النخل يقال لثمرها اللون ، وهو شديد الصفرة يرى نواه من خارج ، يغيب فيها الضرس وكان من أجود تمرهم وأعجبها إليهم ، وكانت النخلة الواحدة منها ثمنها ثمن وصيف ، وأحب إليهم من وصيف فلما رأوهم يقطعونها شق ذلك عليهم وقالوا للمؤمنين : إنكم تكرهون الفساد في الأرض ، وأنتم تفسدون دعوا هذا النخل [ قائما هو لمن غلب عليها ] فأخبر الله تعالى أن ذلك بإذنه .

تفسير وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)

( وما أفاء الله على رسوله ) أي رده على رسوله . يقال : أفاء يفيء أي رجع وأفاء الله ( منهم ) أي من يهود بني النضير ( فما أوجفتم ) أوضعتم ( عليه من خيل ولا ركاب ) يقال : وجف الفرس والبعير يجف وجيفا وهو سرعة السير ، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير . وأراد بالركاب الإبل التي تحمل القوم . وذلك أن بني النضير لما تركوا رباعهم وضياعهم طلب المسلمون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقسمها بينهم كما فعل بغنائم خيبر فبين الله تعالى في هذه الآية أنها فيء لم يوجف المسلمون عليها خيلا ولا ركابا ولم يقطعوا إليها شقة ولا نالوا مشقة ولم يلقوا حربا ( ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ) فجعل أموال بني النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة يضعها حيث يشاء فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم أبو دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النضري أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - دعاه إذ جاءه حاجبه يرفأ فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون ؟ قال : نعم . فأدخلهم فلبث يرفأ قليلا ثم جاء فقال : هل لك في عباس وعلي يستأذنان ؟ قال : نعم . فلما دخلا قال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا - وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله من بني النضير - فقال الرهط : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر . قال : اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا نورث ما تركنا صدقة ؟ يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه ، قالوا : قد قال ذلك فأقبل عمر على علي وعباس فقال : أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك ؟ قالا : نعم . قال : فإني أحدثكم عن هذا الأمر إن الله كان خص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره فقال : " وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب " إلى قوله : " قدير " وكانت هذه خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما احتازها دونكم ولا استأثرها عليكم لقد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حياته ثم توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر : أنا ولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبضها أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - فعمل بها بما عمل به فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنتم حينئذ جميع وأقبل على علي وعباس : تذكران أن أبا بكر فعل فيه كما تقولان والله يعلم إنه فيها صادق بار راشد تابع للحق ، ثم توفى الله أبا بكر فقلت : أنا ولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر فقبضتها سنتين من إمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر والله يعلم إني فيه صادق بار راشد تابع للحق ثم جئتماني كلاكما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع فقلت لكما : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا نورث ما تركنا صدقة . فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت : إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وبما عملت به فيها منذ وليتها وإلا فلا تكلماني فيها فقلتما : ادفعها إلينا بذلك ، فدفعتها إليكما أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك ؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي فإني أكفيكما .

تفسير مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)

قوله - عز وجل - ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ) يعني من أموال كفار أهل القرى . قال ابن عباس : هي قريظة والنضير وفدك وخيبر وقرى عرينة ( فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) قد ذكرنا في سورة الأنفال حكم الغنيمة وحكم الفيء . إن مال الفيء كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته يضعه حيث يشاء وكان ينفق منه على أهله نفقة سنتهم ويجعل ما بقي مجعل مال الله .
واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : قوم هو للأئمة بعده .
وللشافعي فيه قولان : أحدهما - هو للمقاتلة ، والثاني : لمصالح المسلمين . ويبدأ بالمقاتلة ثم بالأهم فالأهم من المصالح .
واختلفوا في تخميس مال الفيء : فذهب بعضهم إلى أنه يخمس فخمسه لأهل الغنيمة وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح ، وذهب الأكثرون إلى أنه لا يخمس بل مصرف جميعه واحد ، ولجميع المسلمين فيه حق . قرأ عمر بن الخطاب : " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " حتى بلغ : " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم والذين جاءوا من بعدهم " ثم قال : هذه استوعبت المسلمين عامة . وقال : ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم .
( كي لا يكون دولة ) قرأ العامة بالياء " دولة " نصب أي لكيلا يكون الفيء دولة وقرأ أبو جعفر : " تكون " بالتاء " دولة " بالرفع على اسم كان أي : كيلا يكون الأمر إلى دولة وجعل الكينونة بمعنى الوقوع وحينئذ لا خبر له . " والدولة " اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم ( بين الأغنياء منكم ) يعني بين الرؤساء والأقوياء فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا اغتنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه وهو المرباع ثم يصطفي منها بعد المرباع ما شاء فجعله الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - يقسمه فيما أمر به ثم قال : ( وما آتاكم ) أعطاكم ( آتاكم ) [ من الفيء والغنيمة ] ( فخذوه وما نهاكم عنه ) الغلول وغيره ( فانتهوا ) وهذا نازل في أموال الفيء وهو عام في كل ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهى عنه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل عن محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله . فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب فجاءت فقالت : إنه قد بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله تعالى فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول : قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت : " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " ( الحشر - 7 ) قالت : بلى قال : فإنه قد نهى عنه ( واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) ثم بين من له الحق في الفيء فقال : ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا ) .